.png)
كنوز نت - الشيخ عبد الله عياش - عضو حركة الدعوة والإصلاح
الرّجوع إلى الحقّ
غنيّ عن البيان أنّ الخطأ لا ينفكّ عن بني آدم، فكل ابن آدم خَطَّاء كما قال رسول الله ﷺ، فلا يُلام الإنسان إذا وقع منه الخطأ، ولكن يُلام إذا ظهر له وجهُ الحقّ ولم يرجع إليه، فالنّاس جميعا يرتكبون الأخطاء، ولكن لا يرجع إلى الحق إلا الصفوة منهم، لا يرجع إلى الحق إلا أصحاب النّفوس الكبيرة، لا يرجع إلى الحق إلا المُوفَّقون.
كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما: ولا يمنعنّك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك، وهُديت لرشدك، أن تعود فيه إلى الحق، فإنّ الحقَّ قديمٌ لا ينقضه شيء، والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل.
وقد أخذ عمر هذا الأدبَ الكريمَ من أستاذه ﷺ، حيث قال كما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "وإني واللهِ، إن شاء اللهُ، لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيرًا منها، إلا كفَّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خيرٌ ".. فهي ليست مَنقصة أبدا أنْ تعترف بأنّك أخطأت وجانبت الصواب.
سُئل الإمام مالك في مجلسه عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فكرهه؛ لأنّه لم يبلغه فيه شيء عن النّبي ﷺ، فلما انفضّت الحلقة وانصرف الناس، بقي تلميذه عبد الله بن وهب جالسا، فقال مالك: هل عندك شيء؟ قال: نعم.. حدّثني محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ خلل أصابعه. فسكت مالك. فلما كان من الغد واجتمع الناس: قال مالك: هل بقي أحد ممن حضر مجلسنا بالأمس؟ قالوا: قد حضرنا جميعًا. فقال: سألتموني عن تخليل الأصابع فذكرت أنه لم يرد فيها عن النبي ﷺ شيء، وقد حدثني عبد الله بن وهب قال: حدثنا محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ خلل أصابعه.. فانظر يا رعاك الله إلى هذا الإمام العَلَم، لما تجدّد له علم لم يجد غضاضة من الاعتراف بالخطأ.
وقد حصل نظير ذلك لبعض شيوخ المالكية الكبار في تونس، فقد ذَكر في مجلسه أنّ النبي ﷺ طَلَّق وآلى [حلف ألا يقرب نساءه] وظاهَرَ من نسائه، فلما انفضّ المجلس بقي شاب صغير في مجلسه، فدعاه فقال : هل عندك شيء؟ فقال: نعم، حدثتنا أن النبي ﷺ طلّق، وقد ثبت في الصحيح أنّه طلق حفصة، فأمره جبريل بمراجعتها، وحدثتنا أنه آلى من نسائه، وقد ثبت في الصحيح أنّه آلى من نسائه شهرًا، وحدثتنا أنه ظاهر من نسائه! وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: ﴿ٱلَّذِینَ یُظَـٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَاۤىِٕهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَـٰتِهِمۡۖ إِنۡ أُمَّهَـٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّــــٰـــــۤـِٔی وَلَدۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَیَقُولُونَ مُنكَرࣰا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورࣰاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورࣱ﴾ [المجادلة: 2]؟ فقال: إذًا أنت الفتى ابن مرزوق؟ قال : نعم . وكان يسمع به. فلما كان من الغد والْتأمَتِ الحلقة، قال: حدثتكم بالأمس أن النبي ﷺ طَلَّقَ وقد صدقتُ، وحدثتكم أنه آلى من نسائه وقد صدقتُ، وحدثتكم أنه ظاهَرَ من نسائه وقد كذبتُ، وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: ﴿ٱلَّذِینَ یُظَـٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَاۤىِٕهِم...﴾ [المجادلة: 2]. ثم قال: عَلَّمَنيها هذا الفتى، وأشار إليه.
ومن أجمل المواقف التي تُروى في هذا الباب ما قاله عبيد الله بن الحسن العنبري، أحد سادات البصرة وفقهائها وعلمائها، وكان قاضيها، قال عبد الرحمن بن مهدي - تلميذه: كنّا في جنازة فسألته عن مسألة فغلط فيها، فقلت له: أصلحك الله، القول فيها كذا وكذا، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: "إذًا أرجع وأنا صاغر، لَأنْ أكون ذَنَبًا في الحق أحبُّ إلي من أنْ أكون رأسًا في الباطل".
إذا فالرجوع إلى الحق من مكارم الأخلاق ومن محاسن الشيم، والاعتذار لا يَضَع من قدر الإنسان ولا يُذهب هيبته، بل يُذكر موقفه على وجه المدح ويُروى في باب الفضائل. فإذا خضتَ نقاشا مع أحد الناس، ثم تيقّنتَ أنّك مخطئ؛ فاعترفْ بذلك ولا تتكبر. وإذا كنت تتبنى فكرة ما ثم ظهر لك بطلانها؛ فارجع إلى الحق فهو خير من التمادي في الباطل، وإذا أخطأت في حق إنسان فاعتذر منه ولا تبرر ولا تكابر.
يجب أنْ نربي أنفسنا وأبناءنا على ثقافة الاعتذار، وتقديم الحق على حظوظ النفس والهوى، فالحق أحق أن يُتّبع، لأنّ بعض المسلمين اليوم لا يستطيع أنْ يقول: آسف. لا يستطيع! بعضنا لم يقلها منذ سنين. لا لأنّه لم يُخطئ! ولكن لأنّ كبريائه يمنعه من ذلك.
ولذلك كان الدعاء باتّباع الحق بعد وضوحه أمرا من الأهمية بمكان، لأنّ القضية ليست بتمييز الحق من الباطل، بقدر ما هي القدرة على اتباعه، لأنّ الحق أبلج والباطل لجلج، فها هو الحق واضح في الأرض وضوح الشمس، ينادي على نفسه في كل مكان، ولكن أين هم أتباعه؟ فاللهم أرنا الحق حقّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
الشيخ عبد الله عياش - عضو حركة الدعوة والإصلاح
05/03/2025 07:47 pm 40