.png)
كنوز نت - شيرين عبود فاهوم
قراء في رواية ملجأ الكلب السعيد
ما من رواية كُتبت الّا وكانت مستوحاة من واقع ما، يتراوح منسوب الواقعي والمتخيّل في كلّ عمل بحسب طبيعته وطريقة كتابته لكن الواقع يكمن دائمًا فيما هو خيالي.
ثمّة روايات تقدم نفسها لقارئها بوصفها قصصًا حقيقيّة أو مستوحاة من تجربة واقعية وهذا يعني أن المؤلف يتعهد للقارئ بأن تدخلاته في الحكاية قد بقيت في حدّها الأدنى، ويلجأ غالبًا الى هذا الخيار لمضاعفة تأثير العمل على قارئه، لكن الكاتب لم يلجأ لهذا الأسلوب رغم أن أحداث القصّة حقيقيّة وهذا ما كشف عنه بعد صدور الرواية حيث ترك للقارئ مساحة لينكشف على النصّ ويتخيّل لوحده الأحداث.
تجمع الكتابة بين السرد وحثّ القارئ على التفكير بشكل يمكنه من الانفتاح بسهولة على فكرة جديدة. عادة يستمد الكاتب قوّته من استخدامه شخصيات يتعاطف القارئ معها لذلك يعمل باستمرار على جعله يهتم بنهم بالقصّة المسرودة، غاية الكاتب هنا هي الذهاب بالقارئ نحو أماكن وأشياء لم يكن يفكر فيها من قبل أو كان يصفها بشكل مغاير أو لم يكن يريد الاهتمام بها البته، وهذا ما فعله بنا تمامًا الكاتب في روايته ملجأ الكلب السعيد.
"ملجأ الكلب السعيد" هي رواية للأديب الفلسطيني سهيل كيوان صدرت عن مكتبة كل شيء- حيفا تقع في 298 صفحة، كَتب تظهير للكتاب الناقد أ.ابراهيم طه حيث كَتب في نهاية التظهير جملة غاية في الأهمية عن الكاتب والرواية معًا " سهيل كيوان خطا خطوات عريضة وبعيدة مع الكلاب في هذه الرواية"، ومن يقرأ هذه الرواية يعرف ما تحمله هذه الجملة من معناها العميق.
رواية “ملجأ الكلب السعيد” تُعدّ من الأعمال الأدبية التي تتناول بعمق وتعقيد واقع المجتمع الفلسطيني في الداخل خلال العقود الأخيرة. يستعرض الكاتب من خلال هذا العمل التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي شهدها هذا المجتمع، مستخدمًا أسلوبًا سرديًّا سلسًا ومشوّقًا، ومُطعّمًا بحس فكاهي يخفف من وطأة المعاناة والألم.
من خلال تتبع حكايات لثلاث أسر عربية وأسرة الكلبة كليلة ، أسرة الراوي نجم وزوجته رندا، أسرة الأستاذ جاد الله عيسى وأولاده، وأسرة حسن الساعدي، وأسرة الكلبة كليلة ( فورتونا سابقًا)،وكلّ الأسر تربطها علاقات مع كلاب من نسل كليلة وغيرها. أحداث الرواية دارت في زمن حرب من حروب إسرائيل على لبنان. يحكي لنا الراوي قصة الكلبة كليلة والتي تركت من قِبل أصحابها (ايلي وريتا ) من قرية زيتيم في الشمال بسبب الوضع الأمني في شمالي البلاد وبعدها يتم توزيع الجراء على عدة أشخاص، وذلك بعد أن يحصل خلاف بين نجم وزوجته رندا التي لم ترغب في وجود الكلبة لمخاوفها من نقل عدوى وامراض لأولادها. يحاول نجم التخلص من الكلبة كليلة لكنه لم يفلح في ذلك وتتوالى الأحداث في الرواية...
يُظهر الكاتب من خلال الرواية التداخل بين حيوات البشر والحيوانات، مما يعكس تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي. يُعتبر هذا التناول إشارة إلى التحدّيات التي يواجهها الفلسطينيون في الداخل، وكيفية تفاعلهم مع محيطهم ومع بعضهم البعض.
تُبرز الرواية قدرة الكاتب على توظيف ثقافته الواسعة لإغناء النص الأدبي، مما يجعلها مفتوحة على التأويل وتحث القارئ على التفاعل والتفكير النقدي. يُسلط الضوء على تفاصيل الحياة اليومية، مقدمًا نقدًا للذات وفحصًا للعلاقات مع “الآخر” بمختلف تجلياته ونقدًا لاذعًا لمجتمعنا وما يعيشه في الآونة الأخيرة من تداعيات دخيلة عليه وخطيرة.
يُلاحظ أن الرواية تحمل في طياتها رمزية عميقة، حيث يمكن تفسير “الكلب” كرمز للوفاء أو للمعاناة المشتركة، مما يفتح المجال لتفسيرات متعددة تعكس ثراء النص وتعقيده.
أسلوب الكاتب في رواية "ملجأ الكلب السعيد" يتميز بعدة سمات بارزة تجعل النص ممتعًا وعميقًا في الوقت ذاته:
1.اللغة السلسة والمباشرة: يستخدم الكاتب لغة واضحة وسهلة، مما يجعل الرواية مناسبة لجميع القراء، مع الحفاظ على بعد أدبي راقٍ يمنحها عمقًا سرديًّا.
2.الواقعية الممزوجة بالسخرية: يتميز أسلوبه بتقديم الواقع الاجتماعي والسياسي بأسلوب يجمع بين الجدية والسخرية الذكية وهذا ما يتميز به الكاتب، وهو ما يخفف من وطأة القضايا المعقدة ويجعل النص أكثر قربًا للقارئ.
3.السرد المتعدد المستويات: يتنقل الكاتب بين عدة مستويات سردية، حيث يدمج بين القصص الإنسانية وقصة الكلبة، مما يخلق نوعًا من التفاعل الرمزي بين الأحداث والشخصيات.
4.وصف دقيق للحياة اليومية: يولي اهتمامًا كبيرًا للتفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية، مما يضفي واقعية على الرواية ويجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش داخل الأحداث.
5.التوظيف الرمزي للحيوانات: يستخدم الحيوانات، وتحديدًا الكلاب، كرموز تعكس حالة المجتمع الفلسطيني في الداخل، مما يفتح مجالًا للتأويلات العميقة حول العلاقة بين البشر والحيوانات وتأثيرها على فهم القضايا السياسية والاجتماعية.
6.التفاعل بين الشخصيات: يبرع في تصوير العلاقات الإنسانية المركّبة، خاصةً في ظل التحدّيات السياسية والاجتماعية، مما يجعل القارئ يتفاعل مع شخصيات الرواية وكأنها أشخاص حقيقيون يعيشون حوله.
نستطيع القول أن أسلوب الكاتب في الرواية يجمع بين الواقعية والنقد الساخر، مع لمسات رمزية عميقة، مما يجعل الرواية تجربة أدبية ممتعة ومؤثرة في آنٍ واحد.
تلعب الأماكن في الرواية دورًا أساسيًا في تشكيل الأحداث وتطوير الشخصيات، حيث لا تقتصر على كونها مجرد مواقع جغرافية، بل تحمل أبعادًا رمزية واجتماعية وسياسية تعكس واقع المجتمع الفلسطيني في الداخل.
ومن أبرز الأدوار التي تؤديها الأماكن في الرواية:
1.الملجأ (ملجأ الكلب السعيد) - يمثل الملجأ مكانًا غير تقليدي في السرد الروائي، إذ يرمز إلى الهروب، اللجوء، والبحث عن الأمان، سواء للحيوانات أو للبشر. يعكس حالة من التهميش والاغتراب، حيث يجد الكلاب مأواها فيه كما يجد بعض البشر أنفسهم في أوضاع مشابهة، ما يخلق مقاربة رمزية بين الاثنين. يعبر عن مفارقة بين فكرة الحماية والاحتجاز، حيث أن الملجأ يوفر الأمان لكنه في الوقت ذاته يعكس العزلة عن العالم الخارجي.
2.المدينة/القرية الفلسطينية - المكان الأساسي الذي تدور فيه الأحداث، وهو يُظهر تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الفلسطيني داخل أراضي 1948. يعكس الصراع بين الحداثة والتقاليد، حيث تواجه الشخصيات تحدّيات تتعلق بالهوية، المواطنة، والعلاقة مع السلطة والمجتمع. تقديم صورة مصغرة عن المجتمع الفلسطيني، بما يحمله من تناقضات وصراعات داخلية وخارجية.
3. الأماكن العامة (الشوارع، المؤسسات) - تعكس هذه الأماكن التفاعلات الاجتماعية بين الشخصيات المختلفة، وتكشف عن الطبقات الاجتماعية والفوارق بينها. تُستخدم لعرض تفاصيل الحياة اليومية، مثل النقاشات السياسية والاجتماعية، مما يجعل الرواية وثيقة تعبر عن الواقع الفلسطيني.
4. البيوت والمنازل - تمثل البيوت في الرواية الملاذ الشخصي، لكنها في الوقت ذاته قد تكون مصدرًا للقيود الاجتماعية والتقاليد التي تؤثر على قرارات الشخصيات. تعكس التباين بين الحياة الخاصة والحياة العامة، وكيفية تأثر الأفراد بالمجتمع المحيط.
تُستخدم الأماكن في الرواية كأدوات رمزية لتمثيل قضايا أكبر مثل الهوية، الصراع، الانتماء، والعزلة. فالملجأ ليس مجرد مكان للكلاب، بل هو استعارة لحالة الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل واقع سياسي واجتماعي معقد، والمدينة ليست مجرد خلفية للأحداث، بل تعكس صراعات متعددة تؤثر على مصير الشخصيات.
بالتالي، الأماكن في رواية "ملجأ الكلب السعيد" ليست مجرد مواقع للأحداث، بل هي عناصر فعالة تساهم في بناء المعنى وتعميق فهم القارئ للرسائل التي يُريد الكاتب إيصالها.
يعتمد الكاتب في روايته ملجأ الكلب السعيد على أسلوب سردي واقعي رمزي، يمزج بين السرد التقليدي والتقنيات الحديثة، مما يجعل الرواية ذات طابع متنوع يجمع بين الحكي المباشر، الرمزية، والسخرية الناقدة.
ويمكن تحديد ملامح أسلوبه السردي في النقاط التالية:
1. تعدد الأصوات السردية - تتناوب في الرواية عدة أصوات، مما يخلق تنوعًا في زوايا الرؤية ويتيح للقارئ فهم الأحداث من وجهات نظر مختلفة. هناك تقاطع بين السرد الإنساني وسرد الحيوان، حيث يقدم الكاتب منظورًا غير مألوف من خلال إدخال صوت الكلبة كعنصر سردي، مما يُضفي بعدًا فلسفيًا على الرواية.
2. السرد الواقعي الممزوج بالرمزية - يعتمد الكاتب على سرد واقعي يعكس الحياة الفلسطينية في الداخل، لكنه لا يقتصر على توثيق الواقع فقط، بل يوظف الرمزية بشكل ذكي، خاصة في العلاقة بين الشخصيات البشرية والحيوانات، حيث تعكس أوضاع الحيوانات مواقف الإنسان ومصائره. الملجأ كمكان يُستخدم كرمز للمأوى القسري والبحث عن الأمن، سواء للحيوانات أو للبشر في مجتمع يعيش تحت ضغوط اجتماعية وسياسية.
3. توظيف السخرية والنقد الاجتماعي - يتميز السرد بطابع ساخر وناقد، حيث يستخدم الأسلوب التهكمي للتعبير عن التناقضات في المجتمع الفلسطيني وعلاقته بالسلطة والواقع اليومي. هذه السخرية لا تُستخدم فقط لإثارة الضحك، بل هي أداة لكشف المفارقات والتناقضات السياسية والاجتماعية.
4. التداخل بين السرد والوصف - هناك توازن واضح بين السرد والوصف، حيث لا يكتفي الكاتب بسرد الأحداث بل يغوص في تفاصيل المكان، الشخصيات، والحالة النفسية لكل منها، مما يجعل القارئ أكثر تفاعلًا مع المشهد. يستخدم الوصف أيضًا في رسم معانٍ رمزية، مثل تصوير الملجأ كمكان يعكس واقع الفلسطينيين في الداخل.
5. الحوار الحي والطبيعي - تأتي الحوارات في الرواية واقعية وحيّة، تعكس طبيعة الشخصيات ومستوى تفكيرها وثقافتها. يعتمد الكاتب على اللغة المحكيّة في بعض المواضع، مما يمنح السرد حيويّة ويجعل الشخصيات أكثر قربًا للقارئ.
6. التلاعب بالزمن السردي - يتنقل السرد بين الحاضر والماضي دون أن يكون الانتقال فجائيًا، مما يخلق تدفقًا سلسًا للأحداث ويعطي القارئ إحساسًا بالاستمرارية في الحكاية. هذا التلاعب الزمني يساهم في بناء التشويق داخل الرواية.
الأسلوب السردي في ملجأ الكلب السعيد يتميز بالتنوع والتوازن بين الواقعية والرمزية، السخرية والنقد، السرد المباشر والتقنيات الحديثة. هذا المزج يجعل الرواية ليست فقط عملاً أدبيًا ممتعًا، بل أيضًا نصًا يحمل أبعادًا فكرية واجتماعية عميقة تستفز القارئ للتفكير في قضايا الهوية والانتماء والبحث عن المأوى، سواء كان للبشر أو الحيوانات.
- الموروث الشفهي في رواية ملجأ الكلب السعيد
يُعد الموروث الشفهي عنصرًا مهمًا في رواية "ملجأ الكلب السعيد"، حيث يوظفه الكاتب بذكاء ليعكس الثقافة الشعبية، والهوية الفلسطينية، والتجربة الجماعية التي تشكّلت عبر الأجيال.
يظهر الموروث الشفهي في الرواية بعدة أشكال، منها:
1. الأمثال الشعبية والحكم - يعتمد الكاتب على إدراج الأمثال الفلسطينية والعربية التي تعبّر عن المواقف الاجتماعية والسياسية المختلفة، مما يضفي على النص طابعًا محليًا أصيلًا.
2. الحكايات والأساطير - يستحضر الكاتب بعض الحكايات الشعبية والأساطير التي تُروى شفهيًا داخل المجتمع، مما يمنح الرواية بُعدًا تراثيًا عميقًا.
3. الأغاني الشعبية والأهازيج - يمكن أن يظهر الموروث الشفهي في الرواية من خلال اقتباس الأغاني التراثية أو الأهازيج، سواء في لحظات الفرح أو الحزن. هذه الأغاني تعطي إحساسًا بالحياة اليومية في البيئة الفلسطينية، وتجسد المشاعر الجماعية لشخصيات الرواية.
4. الحوارات والأسلوب اللغوي - يعتمد الكاتب على لغة محكية قريبة من القراء ( اللهجة الفلسطينية) في بعض الحوارات، مما يعكس طبيعة التفاعل الاجتماعي داخل الرواية. هذا الاستخدام للغة الشفهية يمنح الشخصيات واقعيّة وحيويّة، ويجعل القارئ أكثر ارتباطًا بعالم الرواية.
يلعب الموروث الشفهي دورًا أساسيًا في ملجأ الكلب السعيد، حيث يُثري النص ويمنحه أصالة ثقافية، ويُستخدم كأداة لنقل الحكمة، النقد الاجتماعي، وإبراز هوية الفلسطينيين في الداخل. هو جزء أساسي من الرواية نفسها، مما يعكس تأثر الكاتب بثقافة شعبه وقدرته على دمجها في عمل أدبي حديث.
تتناول الرواية موضوع الهجرة الروسية إلى إسرائيل وتأثيرها على المجتمع الفلسطيني في الداخل، حيث يُسلط الكاتب الضوء على التحولات الديموغرافية والثقافية التي رافقت موجة الهجرة الكبرى لليهود من الاتحاد السوفيتي السابق فترة التسعينيات (تهويد الجليل)، من خلال تكثيف الاستيطان وتغيير معالم المكان، وبناء مدينة كرمئيل على ارض عربية تم مصادرتها ومعظم سكانها من المهاجرين الروس بالإضافة لعدد قليل من العرب يعاني معظمهم من التمييز العنصري.
يُشير الكاتب إلى أن المهاجرين الروس جاؤوا بطباعهم وثقافتهم المختلفة، مما أدى إلى تغير في موازين القوى داخل المجتمع الإسرائيلي، وأثر على العلاقات الاجتماعية بين اليهود والفلسطينيين في الداخل. يعكس هذا التغيير التوترات الثقافية والعرقية، حيث يجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة طبقة جديدة من المهاجرين الذين يحملون أفكارًا وهويات مختلفة.
تُمثل الهجرة الروسية في ملجأ الكلب السعيد عنصرًا ديموغرافيًا واجتماعيًا يعكس التحولات داخل إسرائيل وتأثيرها على الفلسطينيين في الداخل. من خلال تصوير هذه الهجرة، يبرز الكاتب الصراعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، والتحدّيات التي يواجهها الفلسطينيون في ظلّ هذه التغيرات، مما يُعزز الطابع النقدي للرواية تجاه الواقع السياسي والاجتماعي.
ملجأ الكلب السعيد ليست مجرد رواية عن حياة الفلسطينيين في الداخل، بل هي تأمل في واقعهم من خلال رمزية الحيوانات والملجأ. باستخدام لغة بسيطة لكن ذات أبعاد فلسفية، يقدم الأديب سهيل كيوان من خلالها نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا، ويجعل القارئ يعيد التفكير في معنى الحرية، الانتماء، والمأوى الحقيقي.
أهنئك الأديب المبدع سهيل كيوان على روايتك الرائعة متمنية لك المزيد من التألق والنجاح في سماء الأدب.
- شيرين عبود فاهوم
.jpg)
21/02/2025 12:55 pm 151