كنوز نت - خالدية أبو جبل


"لتكن مشيئتك" للروائية ابنة الناصرة دعاء زعبي

تصميم الغلاف ورد حيدر
صادرة عن دار ورد للنشر والتوزيع
تقع الرواية في 207 صفحة من الحجم الوسط.
      
**********
     

البداية هي العتبة الاولى -بعد العنوان-

للتخييل وبناء إدراك أولي تتشكل معه أحاسيس وأُفق انتظار مُنسجم أو معدل عن الأُفق الذي خلقه العنوان أو أسم المؤلفة.
وهي - أي المؤلفة- التي تسّم البداية بخلفيتها ومواقفها الفكرية وقناعاتها السرديّة والتقنيّة، التي أطلّ عليها القارئ
من خلال روايتها الاولى " جوبلين بحري" تلك الرواية التي حملت عنوانًا مثير ًا، لتأت لنا اليوم بعنوان استثنائي يضع المتلقي أمام تساؤلات عدة ينتظر إيجاد الإجابات عليها على مدى صفحات الرواية...
لكني سأترك الكلام عن العنوان ولوحة الغلاف إلى النهاية.
وقد جاءت بداية الرواية مشهدًا مُجتّزًا من الزمن، بعد ذلك تم اللجوء إلى الاسترجاع قصد تجسير البداية بما سبقها حتى يتحقق الانسجام مع أحداث متفرقة في أزمنة عدة، لا في زمن واحد.
ذلك المشهد الذي جعلتنا فيه الساردة نلهث خلف روز التي تلهث هي الاخرى خلف بطنها المُكورة، وتُسابق قدميها لهاثها لتنال بركة الكاهن لها ولجنينها الذي آن وقت ميلاده، وتحثّ زوجها سعيد على الاسراع في السير، بعد ليل طال حُلمه ومخاوفه.
والتقاؤهما في طريق العودة بتلك الأم المتوترة برفقة طفليها، والذي مزّق صوت بكاء أصغرهما سكون الصباح، مما اثار تعاطف روز وزوجها سعيد ودعاهما لتقديم المساعدة، ببراءة لطيفة مدّ الطفل الأكبر يده ولمس بطن روز ، فتمنت روز ان يرزقها الله بطفل ساحر العينين مثل هذا الطفل، وحين ابتعدا بضع خطوات من العائلة، قالت ام الطفلين بصوت مرتفع
ان صغيرها مسكونا بالارواح الشريرة...
مشهدًا مملوءًا بالإثارة والتساؤل، يُلقي بظلاله على صفحات الرواية ويُحدّث فيها ضجيجًا خفيّا، يُلزم المتلقي أن يلهث بدوره خلف خطوات شخوص الرواية
فلا تفلت منه صغيرة أو كبيرة، على أمل أن يأخذ نفسًا عميقًا يرتاح به في النهاية.
" في هذه اللحظة التي سُمعت فيها صرخات روز الأخيرة مُبشرة بقدوم منى، كانت الأضواء تنبعث من بيوت كثيرة في الميمونة، حيث مُدّت موائد السحور وانبعثت فيها روائح رمضان بما حمله معه من خيرات وطيّبات ودعوات مباركة، وفي هذه اللحظة التي وُلدت فيها منى كانت مصر وسوريا تُعدان العُدّة لخوض حربهما مع اسرائيل"ص50 إلى هنا وتُقفل دعاء فصلها الاول لروايتها بعد أن أسست لروز الآتية عروسا من القدس للعاشق سعيد، أسست لهما بيتا من سكينة ومحبة وحبّ.
اقفلت فصلها الأول بعد أن حققت رمزية تفاعل الأزمنة والشخصيات والمكان في الرواية، لتُسلّم دفة القيادة لمنى ابنة روز وسعيد وأختا لمي ، وقد أصبحت امرأة ناضجة متزوجة من كريم ولهما طفلٌ واسمه رامي...
سار السرد بنا على لسان منى في اتجاه انفتاحي وحلقي مترابط يؤرخ لحياة امرأة في علاقتها مع ذاتها ومع الآخر وهو تاريخ يؤسس لبناء الحكاية، انطلاقًا من عنصر التشوق الذي بذرته الساردة منذ البداية.
إنها منى التي تقول:" كنت قد كبرت قليلا حين بدأت أشعر بالأيقونات تلاحقني أينما ذهبت، وكيفما تحركت، الأمر الذي أثقل عليّ كثيرا خاصة في فترة مراهقتي"ص64 في هذا المستوى تتشكل أهم حلقات الوعي وتناقضاته التي هي بحاجة إلى مستوى آخر...
ساهم هذا الاتجاه في التركيز على شخصية منى ورسم الجانب النفسي فيها في إطار نسيج متنوع الحوافز والمؤشرات إلى استخلاص طبيعة الوعي في مرحلة معينة وظلاله الممكنة وصور التبدلات في القيّم والأفكار والعلاقات.
وقد جاء التركيز على شخصية منى تبئيرًا للصراع الذي وُجدت فيه وعاشته ، حيث تظهر في هذا الإطار تجليات الواقع عبر تصوير العواطف والأحاسيس، فالحديث عن النفس هو علامة على واقعية النص وصدقه.
فنراها قد اعتمدت ذاتها مرجعًا لسرد باقي أحداث الرواية، وتمركزت حولها بكافة قنواتها وارتباطاتها، وأخذت تغرفُ من لحظتين زمنيتين تشكلان قناة واحدة متصلة، هي المولد المنتج لسجلات المرجع وملاقي الحكي والاستذكار.

فهي حيث تجذر راهنها بين الخيبات المتكررة، تقدم وصفًا مرجعيًا سينعكس متفاعلا مع باقي المشاهد ويدفع بكل بنياته إلى حافة الاحتمال.
ويظل مرجع الأنا مشدودًا إلى الماضي والحاضر في خطّ متنام ومتداخل إذ ينفتح الماضي على سجل يحيل على ماضي منى البعيد والقريب معًا..
منذ لقاءها بكريم وحكاية نصفي الكعكة التي جمعتهما بحبٍ واحد وعشق واحد وولّهٍ وسفرٍ واحد... وبيت واحد تفيض كلّ زواياه وحناياه عشقا وتنثر لوحاته ألوان فرحهما... جاء بكرهما رامي ليزداد زيت القنديل ويُشّع نوره بكل ألوان البهجة... لكنه الفرح الذي لا يُغير عادته ويأبى ألا يكون إلّا سطرا واحدًا في الحكاية، حيث تكتشف منى باحساس الأمومة اولا وباستشارة صديقتها الأخصائية النفسية ، ان طفلها يعاني مما يسمى " طيف التوحد".
حتى تختفي نار القنديل بل وينضب زيته حين بات الأمر يقينا لدى كريم، الذي لجأ للصمت، ليبني منه جدارًا باردًا بينه وبين زوجته وابنه رامي... صار أشبه بالبيت الميت لولا همس قطع البازل( لعبة السوبرمان) التي اعتاد رامي على تركيبها واعادة تركيبها.
وانتقلت عدوى الأسى إلى بيت الجدّين سعيد وروز ، حيث حطت ميوعة مذاق الطعام على مائدتهما، لولا حضور الشوربة الدائم، والتي أحبها رامي حارّة وحارقة.

رافقت المرارة طعم كعكة ميلاد منى الأربعين وانطفأ شمعها قبل أن يُشعل...
في برودة هذا الصمت وقسوته، أطل الغريب بسحر عينيه، ليرُش الملح على
هذه الجروح المفتوحة ليزداد عمقها...
ليتحول هذا الشعور تدريجيًا استجابة
لتحولات في أفكارها واحتياجاتها ومنطقها الجديد...
حيث تقرر الانفصال وطلب الطلاق، والفرار
من علاقة حبٍّ أجهضت ولم تُخلف إلا الشقوق النفسية التي تنّز وجعا وحسرة...
                 **********
وفي القدس بعيدا عن الميمونة، كانت إمراة قد غادرت الميمونة منذ زمن
-يّساوي سنين عمر منى- ، امرأة ضاق بها الحال بعد وفاة زوجها لتقدم لها جارتها" أم نصري" الدعم وتوصي عليها قريبتها مريم
في أحد أديرة القدس ،لتنتقل للعيش هناك
برفقة طفليها جاد وآدم... ظل آدم يعاني صرخاته، وعاشت صرخات آدم في نفس شقيقه جاد، رافقته مرحلة تعليمه في موسكو، ورافقته حين زواجه فأصر على عدم الإنجاب حتى لا يكون صرخات أخرى في حياته.ويكون قراره سببا في انفصاله عن زوجه الروسية...
يقوده هاجس الشوق والحنين لوطنه، ويقوده هاجس الطفولة وملامح الميمونة
لاحضان الميمونة، لتبدع دعاء زعبي في
هذه المفاجأة ، إنه ذلك المشهد الذي تصدر الرواية وغاب، لكنه لم يرحل، بقي يُحرك خيوط السرد بتوازي ، وحين صار من الضروري عودته قطع ذلك التوازي، بجمال
وعذوبة وفيض عاطفة.
ليكون لقاء منى بهذا الغريب لاول مرة
على النبعة التي اعتادت أن ترحل بهمومها
لها رفقة كتابها وسيجارتها وشرشفا اتخذته
فراشًا لروحها .بصمت تتراسل الحواس،
تُسحرها عيناه، وتسميه الغريب،
ويحضر المطر بطلا آخر في الرواية، تقربهما مظلة، وتدغدغ مشاعرهم حباته المنسابة على جسديهما، ويتم حوار القلبين
ويلتقيان هناك حيث السكينة والأمان ..
فما كان هذا الغريب إلا جاد، الذي هدأت نفسه للنبعة لانه ابنها، وليس سائحًا غريبا
               ********
هذا الحدس الصادق والعقل الذي أدرك طريقه، نهض بكل ما اوتي من قوة وإرادة صلبه لينزع عن نفسه برد الصمت، إزاء رفض من العائلة عامة وروز المتدينة خاصة، فكيف ترضى ان ترتبط ابنتها برجل مسلم. لكنه الإصرار يهدم الأسوار..
بوتيرة متسارعة تتم منى السرد، سردًا يوازي حرارة الأحداث وسرعتها.
تقودنا الرواية إلى ولادة ابن لجاد ومنى،
لتضعنا أمام سؤال آخر غريب، كيف يقرر جاد الانجاب وكان قد رفض هذا مسبقا،
واليوم احتمالات ان يكون له ولد مصاب بطيف التوحد، هو احتمال وارد في ظل ما عرفناه، أن آدم شقيق جاد مصاب بطيف
التوحد وكذا ابن منى رامي؟
ترى أيكون لهذا سببا غير المودة والسكينة
   والألفة والاطمئنان والتعاون، والمشاركة في اتخاذ القرارات والاحترام؟
إنها الثوابت التي ينمو فيها الحب ويترعرع ويدوم، بدونها لا حب ولا حياة
زوجية، فحين يصل الزوجان السكينة والمودة، يصبح بوسعهما تحدي الصعاب
والدخول بالتجارب،بقناعة تامة لانها مشيئتهم ، ولا تخالف هذه المشيئة مشيئة الرب، بل تتقبلها دون استسلام وعجز وقلة حيلة.
وهذا ما كان لمنى وجاد، لقاء روحيهما
جعل منهما رافعة داعمة لرامي، الذي وصل
مرحلة الوقوف على المسرح ليعزف على الاورغ امام الجمهور.
وتنطلق الرصاصة الغادرة من سلاح جنود الاحتلال لتغتال ابتسامة إياد الحلاق على بوابات القدس وهو الطفل الذي عاش طيف التوحد، في نفس اللحظة التي انطلق فيها رامي يعزف الحانه....
إنه الأمل الذي يُرافق الألم... إنها النهاية الموجعة والتي تحمل مخاض ولادة...
أنه الحمل الدائم والولادة المستمرة.
الولادة التي تهزم الموت.
    *******
النهاية: تحكمت دعاء بالنهاية بقدرة ذكية
فهي نهاية لا ينبغي بعدها أن تقول كلمة
واحدة، فلم تأت خاتمة مبتورة، وبعيدة عن الاسترسال.
اعتمدت دعاء في روايتها الخطوط
المتوازية في متابعة الأحداث الروائية، على أن تلتقي هذه الخطوط وتتقاطع في نقاط معينة لفترة معينة، ثم تفترق من جديد، لتلتقي مرة أخرى في نقطة بمقدار
ما هي بعيدة عن البؤرة الأساسية إلّا أنها ضرورية لها، تماما مثل بناء الجدارية الكبيرة في الرسم والتصوير، إذ أن لكل تفصيل أهميته، وبعض الأحيان جاء مستقلا
إلا أنه مرتبط بالتفاصيل الأخرى.
وبهذه الطريقة تأخذ الأشياء حجمها الطبيعي، وعلاقتها فيما بينها.
       ********
 أما في المرجع التاريخي الخلفي للرواية
فيتم استدعاء التاريخ من خلال تاريخ
6 أُكتوبر 1973 الذي شنت فيه الجيوش

المصرية والسورية حربًا على إسرائيل،
وحققتا نصرا أبشع من هزيمة، لا زلنا نرزخ تحت وطأة ثقله بدءًا بكامب ديفيد ومرورا باوسلو ... وطبعا كان اغتيال الطفل
إياد الحلاق بتاريخ 30 مايو 2020
الثمرة اللعينة التي افرزها النصر/ الهزيمة
واتفاقيات الاستسلام، وما عادت تغيب شمس إلا ويضاف للسجل أسماء كانت تعيش في ربوع هذا الوطن الجريح.
الرسالة:
حملت الرواية رسالة مبطنة خفية عبر الدائرة التي أحسنت دعاء رسمها،
حين عادت بمنى وجاد للسكن في القدس
وهي المدينة المقدسة التي جاءت منها روز يوما عروسا للميمونة،
جاد برمزية الهلال ومنى برمزية الصليب
هما ابناء هذه الأرض ، ومعا فقط معا بامكانهم التصدي لكل غدر وترحيل.
لوحة الغلاف:
اختيار أكثر من موفق ورائع، بروعة الأمومة
ومشاعرها التي ملأت فراغات الرواية
بكل ما تحمله من رمزية عميقة، رافق الحمل والولادة كل خطوات الرواية
بداية بحمل روز وانجابها لابنتيها ، ومن ثم
حمل ابتيها وولادتهما، وفيما بعد ولادة منى نفسها من بئر الضياع والصمت،، لتولد مرة أخرى على مهد النبعة... وبعدها ولادة منى لابنها الثاني ثمرة زواجها من جاد،
بعدها ميلاد رامي المعنوي يوم وقف على المسرح عازفًا، إنها الولادة الأصعب والتي رافقتها آلاما شديدة، عاش مخاضها كل من
رافق رامي ودعمه وشجعه وتقبله
كما هو وأحبه... ويكفي أن ميلاد رامي هذا
جاء ليقول للرصاصة الغادرة التي اغتالت إياد الحلاق : إنٍا باقون...
النبعة:
شكل مكون النبعة وشجرة التوت - التي روى توتها البري أصل الحكاية- عنصرا
تحويليا بالأساس، لكسر سردية الخطيّ
ورتابة المكان الواحد، زيادة على أنه وسيلة
أخرجت الرواية من مأزقها- إن صح القول-
فالنبعة أعطت للساردة فرصة تطوير الرواية
وتجديد دمائها، عبر اتخاذها لأهم فراراتها التي ستؤثر عليها.
اللغة:
جاءت الجملة عند دعاء خالية من الزوائد مقتصدة ومقطرة كأنها أبخرة مُطهرة،
واحتمالات مُشرعة على كثافة تختزن أسئلة ورؤى وقدرة على صوغ عوالم متوازية.
اعتمدت الجملة السردية في بنائها العام
داخل الرواية، جملة فعلية توازي حركية السرد، والأحداث المُتنامية بأفعال تعليرية عن الحالات النفسية والاوصاف الخارجية.
مما اعطى للرواية شحنة عاطفية قوية
في جمل قصيرة ومتوسطة، رومانسية
وأخرى تأملية تحليلية.
الوصف:
حضر الوصف عبر هذه اللغة حضورا هاما وديناميًا، يقوم بدور التأثير والإعلاء من
الأحاسيس والانطباعات والتأملات لإنشاء
الصور وتخليقها لتفعيل السرد.
وقد جاء الوصف لدى دعاء تشريحيا يسعى الى رسم وعي الشخصية الساردة
تجاه الأشياء في وصفها للميمونة وحياة أهلها.
وتبقى الأوصاف الأخرى التشريحية أوصافًا
ذاتية، تعكس تذويت الوعي في هذه الرواية- والذي خصّت فيه تقبل المختلف-
المختلف دينا وطائفة ولونًا ومركزا اجتماعيًا وشكلا وخَلقًا، فهو الأساس
الذي سيُفرز التحولات الاولى انطلاقًا من حضور الذاتي بشكل قوي ومؤثر.
       *******
دعاء، أراكِ عِشتِّ أحداث روايتك
وشخوصها عيشًا طويلًا متصلًا... ثم رقدت هذه الاحداث والشخوص في قاع الذاكرة،
وحين ملّت الرقود تسربت مثل الماء
لاتهاب الصخر ولا الحصى...
قتلت في روايتك العادي
ومن المهم جدا أن نقتل العادي ونُحلّق.
خالدية أبو جبل
شباط 2025