كنوز نت - شبكة اريج
النيابة العامة المصرية تتجاهل التحقيق بشأن تعذيب محتجزين
"جريمة التجاهل" لا تُسقط جريمة التعذيب
النيابة العامة المصرية تتغاضى عن التحقيق في شكاوى تعذيب المحتجزي
يكشف التحقيق أن النيابة العامة المصرية تتجاهل عمداً التحقيق في وقائع شكاوى بشأن تعذيب محتجزين على يد أفراد الشرطة بالمخالفة للدستور؛ ما يؤدي إلى إفلات المتهمين بارتكاب التعذيب من العقاب، في حال ثبوت صحة الوقائع التي تتضمنها هذه الشكاوى.
ظلت عفاف*، مهندسة ديكور ستينية، تقطع مسافة مئة كيلومتر ذهاباً وإياباً لمدة شهرين، وهي تحمل حقيبة بداخلها طعام وأدوية نفسية، لزيارة ابنها، زين*، بأحد السجون الواقعة غرب القاهرة. لكنّها كانت تعود إلى منزلها بخيبة أمل كبيرة، فتنزوي بغرفتها تكمل بكاءها وحيدة؛ بسبب عجزها عن رؤية ولدها بسبب إيداعه في عنبر التأديب، وحرمانه من الزيارة وتلقي الإعاشة والدواء.
لم تستسلم عفاف واستطاعت التحدث مع نجلها بضع ثوانٍ، عبر نافذة صغيرة، يكسوها سلك حديد، مثبتة أعلى عربة الترحيلات التي تنقل المحتجزين من السجن إلى جلسات تجديد الحبس بالمحاكم. وقتها أخبرها عن "تعرضه للتعذيب"؛ فأسرعت للسجن وسجلت طلب زيارة استثنائية، وبعد مماطلة سُمح لها بزيارة مدتها عشر دقائق فقط.
خلال الزيارة، هرول زين نحو ركن منعزل، محاولاً الاختباء من كاميرات المراقبة، وأشار بيديه لها أن تقترب، فوجدته الأم حافي القدمين. أخرج زين أصابعه من فتحات السياج الحديدي، وقال لها: "انظري نزعوا أظافري يا أمي"، وخلع سترته واستدار ليريها آثار ما يبدو أنه تعذيب على ظهره، كما شمّر بنطاله ليريها أيضاً آثار حروق يقول إنها ناتجة عن "إطفاء المكلفين بالحراسة سجائرهم في جسده". صُدمت الأم مما رأته، وطلب زين منها الإسراع في تقديم شكوى إلى النيابة العامة.
في صباح اليوم التالي، تقدمت عفاف بشكوى إلى رئيس النيابة الكلية، أرفقت بها سجل زين الطبي الصادر عن مستشفيات حكومية، وطلبت فتح تحقيق بالواقعة، وفحص ابنها بواسطة الطب الشرعي؛ لإثبات ما به من إصابات.
زين واحد من بين ألف و569 مصرياً تحدثوا عن تعرضهم للتعذيب الفردي والجماعي داخل مقار الاحتجاز، في الفترة بين عام 2017 و2023، وفق تقارير "أرشيف القهر" الصادرة عن مركز النديم لتأهيل ضحايا التعذيب. ويؤكد المركز أن هذه الأرقام تُمثل فقط "قمة جبل الجليد"؛ إذ إن هناك العديد من الانتهاكات تُجرى في الخفاء، بعيداً عن التوثيق أو الرصد. كما يشير المركز إلى أن ما يرد في الأرشيف مقتصر على ما تمّ تجميعه من وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.
أجرى مُعدّ التحقيق مقابلات مع خمس حالات أُفرج عنها، إضافة إلى سجين آخر ما زال خلف القضبان، تقدموا جميعاً بشكاوى إلى النيابة العامة وأمام القضاة، بشأن ما قالوه عن تعرضهم للتعذيب والعنف الجنسي على يد رجال الشرطة خلال جلسات التحقيق. ولم يتخذ أعضاء النيابة أيّ إجراءات سوى تسجيل استغاثاتهم في محاضر الجلسات، من دون تحقيق فعلي.
كما حصلت "أريج" على مستندات قضائية توثق اعتماد سلطات الادعاء العام على جهاز الشرطة ذاته في جمع المعلومات والأدلة، وإحضار شهود بشأن وقائع التعذيب؛ وهي الوقائع التي أحد أطرافها أفراد من هذا الجهاز. وغالباً ما ينتهي المطاف بهذه التحريات إلى حفظها؛ "لتعذر جمع المعلومات".
وتشير تقارير المنظمات الحقوقية -المحلية منها والدولية- إضافة إلى لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، إلى إهمال النيابة العامة فتح باب التحقيق؛ ما يُعزز إفلات مرتكبي التعذيب من العقاب.
وبحسب المادة 52 من الدستور المصري، فإن التعذيب بجميع صوره وأشكاله، جريمة لا تسقط بالتقادم. وتعد التحريات أولى خطوات الاستدلال بشأن الجرائم؛ ويراد بالتحريات جمع القرائن والأدلة كلها التي تفيد في التوصل إلى الحقيقة، والنيابة لا تجريها بنفسها بل تعتمد على الشرطة في إجرائها.
وتخضع أعمال الشرطة في جمع الاستدلالات لإشراف ورقابة وتوجيهات أعضاء النيابة العامة، بموجب مواد الدستور المصري "189و199"، ومواد قانون الإجراءات الجنائية "21 و23 و199".
وتشير دراسة بحثية صادرة عن منظمة هيومن رايتس ووتش، بعنوان "إفلات الجناة من العقاب وحرمان الضحايا من العدالة في قضايا التعذيب" إلى أن إشراك الشرطة في التحقيق بوقائع التعذيب ينشأ عنه تضارب المصالح، ويسهم في عدم التحقيق الجاد في بلاغات تعرض محتجزين للتعذيب.
وعلى الرغم من الحاجة إلى تعديل القانون لضمان محاسبة مرتكبي جرائم التعذيب، قوبلت محاولات إجراء هذه التعديلات بالقمع.
حفظ الشكوى
بالعودة إلى زين، فقد استعان مُعد التحقيق بمحامٍ حقوقي، وتوجها إلى سراي النيابة للاستفسار عن مصير شكواه، وتسلما ملف الشكوى بموجب توكيل قضائي مخصص لهذا الغرض.
يتألف الملف من تسع صفحات؛ أربع منها عبارة عن تقارير طبية موثقة تُشخص الحالة النفسية لزين، إلى جانب الشكوى، ومستند طلب النيابة إجراء التحريات، وأخيراً وثيقة التحريات التي أعدتها المباحث الجنائية بقسم الشرطة التابع له السجن.
تملك النيابة العامة سلطة رفض التحريات إذا كانت غير مدعومة بمعلومات أو وقائع محددة، أو إذا كانت مجرد أقوال مرسلة؛ إذ إن النيابة لا تكتفي بقبول التحريات بشكل آلي، بل تقوم بدور رقابي وناقد لمحتواها. وعادةً، تطلب استكمال التحريات بوسائل تحقيق إضافية، حسبما يشرح عبد الرؤوف مهدي، أستاذ القانون الجنائي.
ورغم أن نصوص المواد 21 و24 و29 من قانون الإجراءات الجنائية تفرض على ضباط وحدات المباحث الجنائية ومرؤوسيهم إثبات الإجراءات التي اتخذوها كافة، والإيضاحات التي استطاعوا الحصول عليها؛ مثل الاستماع لأقوال رفاق زنزانة زين عن الواقعة، وإجراء المعاينات وتسجيلها بمحضر التحريات، فإن (أ.ع)، ضابط مباحث ومُحرر محضر تحريات واقعة "زين"، استغرق ثلاثة أشهر لتحرير محضر يخلو من أيّ معلومة أو إجراء قام به، وعلّل ذلك بضرورة معاينة السجن. وبالسؤال عن مصير الشكوى، تبين أن النيابة حفظتها من دون إبداء أسباب، ولم تخطر الشاكي بذلك.
يعلق الباحث القانوني بالنقد الدستوري للتشريعات، محمد عبيد، على الواقعة، قائلاً: "النيابة لم تحقق في الشكوى، وما قامت به هو إجراء روتيني، والمادة 63 من قانون الإجراءات الجنائية تجيز لها حفظ الشكوى؛ أي إغلاق التحقيقات من دون إبداء أسباب"، بالإضافة إلى عدم وجود مادة قانونية تلزم النيابة بإخطار الشاكي بحفظ شكواه.
بموجب المادة 42 من قانون الإجراءات الجنائية، يملك أعضاء النيابة سلطة زيارة السجون، ولهم الحق في الاتصال بأيّ محبوس وسماع شكواه، إلا أن زين، الذي عانى إصابات ظاهرة في جسده، يؤكد أنه لم يُستدعَ لسماع أقواله.
تخويف الناجي
لا تكتفي النيابة بحفظ شكاوى التعذيب، بل ربما يضغط أعضاؤها على المتقدمين بالشكوى؛ للتراجع عن تقديمها، كما حدث في حالة عبد الرحمن طارق، الذي يقول إنه تعرض للتعذيب على يد أحد ضباط الشرطة.
يروي طارق، الشهير بـ "موكا"، كيف حاول وكيل النيابة تخويفه من تقديم شكوى في رئيس التحقيقات بقسم شرطة قصر النيل، وسط القاهرة، مفادها أن الأخير تعدى عليه بالضرب إبان فترة تنفيذ حكم المراقبة اليومية داخل القسم.
دعم العضو السابق بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، جورج إسحق، "موكا"، مقدماً شكوى إلى الإدارة العامة لحقوق الإنسان بمكتب النائب العام؛ فاستدعى وكيل النيابة الأخير لسماع أقواله كمجني عليه.
يقول "موكا" إنه فوجئ بوكيل النيابة يحذره من شكوى الضابط، ويدعوه للتنازل عنها؛ خشية أن يلفق له الضابط قضية، ويعيده إلى السجن الذي قضى به عدة سنوات، بتهمة التظاهر ضد إحالة المدنيين للمحاكمات العسكرية.
يقول "موكا" إنه رفض تحذير النيابة وأصر على شكواه، وبعدها سُجن مرة أخرى.
يكمل "موكا" حديثه قائلاً: "أخبرت النيابة بوجود كاميرات مراقبة مثبتة بأرجاء القسم حين تعرضت للاعتداء، طلبت من النيابة تفريغ الكاميرات لإثبات إدانة الضابط المُعتدي، إلا أن النيابة لم تحرك ساكناً".
أمضى "موكا" سبع سنوات داخل السجن، أقدم خلالها على الانتحار بتناول مجموعة مختلفة من العقاقير، اعتراضاً على حرمانه من الحصول على شاحن راديو، واستلام طعام أعدته أسرته، وإهانته بالألفاظ، وإيداعه بعنبر التأديب. ونقلته إدارة السجن إلى المستشفى، حيث جرى إنقاذه، بحسب المفوضية المصرية للحقوق والحريات.
أصر "موكا" على مواصلة احتجاجه على الأوضاع داخل السجون، ومنها تعرضه للتعذيب، قائلاً: "تقدمت بشكاوى كثيرة إلى النيابة وأنا داخل السجن، ولكن النيابة لم ترد ولم تلتفت".
يجزم موكا بأن ما حدث له يتكرر مع حالات أخرى، مستشهداً بطارق السلكاوي: "طارق السلكاوي، محامٍ في مؤسسة التنسيقية لحقوق الإنسان، أصبح لا يقوى على الحركة، ولا يستطيع المشي؛ جراء التعذيب بالكهرباء والضرب الذي تعرض لهما خلال فترة اختفائه القسري في مقر أمن الدولة".
عاهة مستديمة
في منتصف ليل الأول من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2018، اقتحمت قوات نظامية وغير نظامية (ترتدي ملابس مدنية) منزل السلكاوي بالمنصورة (نحو 126 كيلومتراً شمال القاهرة)، وألقت القبض عليه، قبل أن يختفي قسرياً لمدة 24 يوماً أخفقت خلالها جهود محاميه في معرفة سبب احتجازه ومكانه، بحسب ما ورد في بلاغات أرسلها محاموه للنائب العام، ورئيس نيابة "قسم ثان المنصورة"، والمحامي العام لنيابات المنصورة.
وفق دراسة بحثية صادرة عن مركز النديم بعنوان "أرشيف القهر" عام 2017، فإن الإخفاء القسري لا يخلو من تعذيب المختفين.
قبل اعتقاله، كان طارق يعاني نوبات صداع نصفي مزمن، تُفقده الإدراك والاتزان، وكان يتردد على طبيب مخ وأعصاب، ويتناول دواءً يومياً منذ مدة طويلة، مع توصية طبية بعدم التعرض للإجهاد البدني والعصبي.
تُظهر الوثائق القضائية تأكيد ضابط الأمن الوطني، المكلف بالقبض على السلكاوي، أن الأخير كان بحالة طبيعية لحظة توقيفه، غير أن السلكاوي ظهر بعد فترة الإخفاء القسري، في السادسة مساء يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، أمام نيابة أمن الدولة محمولاً على أكتاف رجال الأمن؛ نتيجة لإصابته بشلل نصفي في يده وساقه اليسرى.
ادّعى ضابط الأمن الوطني -وفق الوثائق- أن اعتقال السلكاوى جرى من منزله في العاشرة مساء يوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2018؛ أي اليوم السابق لعرضه على النيابة، وهو ما أخذت به النيابة، وتجاهلت التحقيق في صحة التاريخ. كما لم تنظر في شكوى السلكاوى ومحاميه بشأن تعرضه للتعذيب، الذي تسبّب في عجزه عن الحركة، وفق السلكاوي.
ذكرت منظمة العفو الدولية أن نواب نيابة أمن الدولة تجاهلوا التحقيق في شكاوى تقدمت بها أسر ومحامو المقبوض عليهم، تتعلق بما وصفوه بـ "تحريف" الأمن الوطني لتواريخ القبض على 87 حالة من أصل 117؛ إذ سجلت تواريخ الاعتقال بتاريخ اليوم الذي سبق تحقيق النيابة مباشرة. ورغم إرسال برقيات متعددة من الأسر والمحامين، لم يتخذ النواب العامون أيّ إجراءات للتحقيق فيما ورد في تلك البرقيات.
ورغم عدم التفات النائب العام ومعاونيه إلى البلاغات السابقة، فإن دفاع السلكاوي استمر في إرسال بلاغ تلو الآخر؛ أملاً في إجراء تحقيق يكشف هوية من قال إنهم عذبوه، ويحيلهم إلى المحاكمة.
وفي 18 آذار/مارس 2019، استجابت النيابة واستدعت دفاع السلكاوي، الذي طلب استدعاء موكله من محبسه، وسؤاله عن هوية مَن عذبوه، ثم قررت النيابة تكليف وحدة مباحث قسم شرطة أول المنصورة بجمع المعلومات عن الواقعة.
وأجاب رئيس وحدة مباحث قسم أول المنصورة، صباح 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، أن التحريات التي قام بها لم تتوصل لحقيقة تلك الواقعة؛ وبناءً عليه قررت النيابة حفظ البلاغات.
ولا يزال السلكاوي خلف القضبان عاجزاً عن الحركة، ويقضي عقوبة السجن مدة 15 عاماً، بناءً على اعتراف يقول إنه انتُزع منه تحت وطأة التعذيب.
محاربة الاقتراحات بتعديل القانون
تحظر المادتان 63 و232 من قانون الإجراءات الجنائية في مصر ضحايا التعذيب من رفع دعاوى قضائية مباشرة أمام المحاكم الجنائية؛ إذ تُمنح هذه الصلاحية حصراً للنائب العام، الذي غالباً ما تُحفظ في مكتبه غالبية شكاوى التعذيب من دون إحالة أيّ متهم للمحاكمة، وفق محمد عبيد، الباحث القانوني المتخصص في النقد الدستوري للتشريعات.
هذا ما دفع المنظمة العربية للإصلاح الجنائي، التي تتخذ من جنيف مقراً لها، للجوء إلى المحاكم المدنية، وأوردت المنظمة في أرشيفها خمسة آلاف و821 حكماً مدنياً بالتعويض عن التعذيب، أصدرها القضاء في الفترة بين عامي 1991 و2017.
محمد زارع، مدير المنظمة، يوضح قائلاً: "بعد صدور الحكم النهائي، نبدأ بمخاطبة وزارة الداخلية لتنفيذ الحكم وسداد قيمة التعويض، إلا أن محدودية ميزانية الوزارة المخصصة لهذا البند كانت تؤدي إلى انتظار الناجين فترات تتراوح بين ثلاث إلى ثماني سنوات لتلقي التعويضات المستحقة".
في المقابل، تُفرض عقوبات هزيلة على المدانين بارتكاب جرائم التعذيب. فقد كشفت المفوضية المصرية عن قائمة تضم 63 ضابطاً وفرد شرطة أدانهم القضاء بارتكاب جرائم القتل العمد، والتعذيب، والضرب الذي أفضى إلى وفاة مواطنين؛ ومع ذلك، برأت محكمة النقض 20 من المتهمين، في حين أصدر رئيس الجمهورية قرارات بالعفو عن 23 آخرين. أما الباقون، فقد صدرت بحقهم أحكام بالسجن تراوحت بين ثلاث إلى سبع سنوات فقط.
يشير محمد عبيد، الباحث القانوني المتخصص في النقد الدستوري للتشريعات، إلى أن ثغرات المادة 126 من قانون العقوبات المصري تُضعف العقوبات المفروضة على مرتكبي التعذيب، إذ يُقيّد تطبيقها بشروط صارمة تدفع النيابة العامة إلى توجيه اتهامات بجنح مخففة؛ مثل "استعمال القسوة"، التي لا تتجاوز عقوبتها الحبس لمدة عام، أو بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه مصري. وفي حالات وفاة الضحية، يتم تكييف الجريمة إلى "ضرب أفضى إلى الموت"؛ وهي جريمة تستوجب عقوبة أقل من تلك المقررة للتعذيب الذي يؤدي إلى القتل العمد.
عجز القانون المطبق حالياً عن معاقبة مرتكبي التعذيب المُجرَّم دستورياً، دفع بعض مؤسسات المجتمع المدني إلى اقتراح تعديله.
بين عامي 2014 و2015، قدمت المجموعة المتحدة، التي أسسها المحامي نجاد البرعي، 163 بلاغاً بشأن 465 ادعاءً بالتعذيب داخل أماكن الاحتجاز، بيد أن النيابة العامة لم تتخذ أيّ إجراءات حيال تلك البلاغات؛ ما دفع المجموعة للجوء إلى التفتيش القضائي لضمان سرعة إجراء التحقيقات.
وفي آذار/مارس 2015، عقدت المجموعة ورشة خبراء لعرض ومناقشة مشروع قانون لمكافحة جريمة التعذيب، بما يتوافق مع نصوص الدستور، ويتماشى مع المعايير الدولية، وفق ما أعلنته المجموعة.
وأُرسل مشروع القانون إلى رئاسة الجمهورية، وعدد من الوزارات المعنية، غير أن الجهات المُرسل إليها المشروع لم تتفاعل معه. على النقيض من هذا، أُحيل القاضيان اللذان شاركا في صياغة مشروع القانون للتحقيق، كما استُدعي البرعي إلى محكمة شمال الجيزة لسماع أقواله، ضمن التحقيقات التي تجرى مع القاضيين اللذين وجهت إليهما ستة اتهامات؛ منها "إعداد مشروع قانون ضد التعذيب، والضغط على رئيس الجمهورية لإصداره، والتعامل مع منظمة غير شرعية".
الاستهزاء بالشهادات
في غرفة بمقر جهاز الأمن الوطني في حي العباسية، تقول شروق أمجد إنها مرت بتجربة مؤلمة. تروي الفتاة العشرينية تفاصيل لحظات لا تنسى، عندما عُصبت عيناها وأُجبرت على الجلوس مقيدة من الخلف على كرسي، في حين كان جسدها ينتفض تحت تأثير صدمات كهربائية متتالية. تكررت الصدمات حتى انهار جسدها، إلى أن سمعت أحدهم يقول للآخر: "البنت هتموت"، وفق روايتها.
تقول شروق إنها استيقظت لتجد ضابطاً يحاول فك أزرار بنطالها، فأصابتها نوبة هلع، وصرخت بأعلى صوتها: "محدش يلمسني! هقول كل اللي عايزينه!". في تلك اللحظة، تدافع زملاء الضابط إلى الغرفة، وأجلسوها على كرسي، وتحت وطأة الترهيب، انهارت شروق، وبدأت تدلي بأقوالها: "أعمل صحفية، وأكتب تقارير سياسية واقتصادية لصالح قنوات فضائية معارضة للنظام المصري".
تشير شروق إلى أن التحقيق معها استمر لمدة ثماني ساعات متواصلة، شعرت خلالها بألم ونزيف الدورة الشهرية، وطلبت الإذن لدخول دورة المياه، إلا أن الضابط سخر منها قائلاً: "أنا سعيد بما يبدو عليه مظهرك"، وهدّدها بين الحين والآخر بالاغتصاب وفحص عذريتها.
لا يقتصر التعذيب الذي رصدناه على العقاب الجسدي، بل تخطى إلى العنف الجنسي؛ إذ وثقت الجبهة المصرية لحقوق الإنسان 58 حالة عنف جنسي ضد النساء داخل مقرات الأمن الوطني، في الفترة بين عامي 2015 و2022. شملت هذه الانتهاكات لمس الأعضاء التناسلية (نحو 33 في المئة)، والتهديد بالاغتصاب (24 في المئة تقريباً)، والتعرية القسرية (19 في المئة تقريباً)، والصعق في الأعضاء التناسلية (نحو 12 في المئة)، والاغتصاب بأشكاله المتعددة (12 في المئة).
وعندما مثُلت شروق أمام وكيل النيابة، بدت ملامحها متأثرة بالاعتداء؛ إذ كان فمها معوجاً من آثار الضرب، وبها كدمات بيديها جراء الصعق الكهربائي. كما كانت ثمة آثار ضرب أخرى على جسدها. وروت شروق كل ما حدث لها.
رفض وكيل النيابة تسجيل شهادتها، وعرضها على الطب الشرعي، واكتفى بتدوين العبارة التالية في محضر الجلسة: "تلقّت شروق لكمة من مُلقي القبض عليها". وفي الوقت ذاته أخبرها أن التحقيق بشأن الاعتداءات التي تعرضت لها سيجرى لاحقاً.
وبعد مرور نحو ثلاثة أشهر، استدعى وكيل نيابة آخر شروق وسألها: "أنتِ تُريدين إحالتك إلى الطب الشرعي؟"، فرفضت شروق؛ لأن آثار التعذيب كانت قد تلاشت بمرور الوقت، وفق روايتها.
تبدي شروق استياءها من تعامل وكيل النيابة مع شكواها، قائلة: "كان يتعامل مع التحقيق الذي طلبته وكأنه إجراء روتيني، مجرد شيء لتدوينه فحسب، من دون إبداء أي تفاعل مع روايتي، وأبدى نوعاً من السخرية".
العنف الجنسي في السجون
على الرغم من أن عمليات التفتيش في تجاويف الأعضاء التناسلية تُعد إجراءً روتينياً عند دخول السجن أو العودة من جلسات المحكمة، فإنها -وفقاً لشهادات ثلاث ناجيات وتقارير منظمات حقوقية- تحولت إلى انتهاكات ذات طابع جنسي صريح.
تروي شروق:"بدأت الحارسة تتحسس جسدي بطريقة لم تكن طبيعية، اقتربت من صدري وأمسكت به من دون تفسير، ثم توجهت إلى منطقة البكيني، ورفعت رأسها لتسألني: "هل أنتِ بنت؟" أجبت بصوت خافت: "نعم، أنا بنت." ردت بلهجة حادة: "هنكشف عليكِ".
تُكمل شروق: "طلبتْ مني أن أستدير وأنحني، وعندما فعلت شعرت بيدها تضغط على عنقي وتجبرني على الانحناء أكثر حتى أصبح رأسي بمستوى قدمي… فجأة، أدخلت إصبعها في فتحة الفرج من دون أي قفاز طبي، كانت لحظة مروعة؛ صرخت بألم شديد وانفجرت في البكاء".
وفي إحدى المرات تتذكر شروق: "بمجرد دخولي الغرفة بدأت الحارسة تلمس يدي ببطء، ثم امتدت يدها إلى مناطق حساسة من جسدي وأمسكت بها بلا تردد، تاركة شعوراً بالذعر يتملكني".
وبحسب "الجبهة المصرية"، فإن ما روته شروق تكرر مع حالات أخرى، وينطبق عليه تعريف الاغتصاب الجنسي. وهو ما وثقناه عند رصدنا للتقاطعات بين حالة شروق وحالة مريم موسى*، التي تخضع إلى جلسات دعم نفسي؛ لتمحو -من دون جدوى- من ذاكرتها ما تقول إنه آثار تعرضها للعنف الجنسي داخل سجن القناطر للسيدات (25 كيلومتراً شمال القاهرة).
تقول مريم: "رأيت السجانة آتية نحوي بخطوات ثابتة، ألقت لي ملابس بيضاء وأخذتني إلى دورة مياه في آخر الممر، أمرتني بخلع ملابسي فظننت أنها تقصد الملابس الملونة فخلعتها؛ فإذا بها تأمرني بحزم ودول كمان، مشيرة إلى ملابسي الداخلية، وقفت مذهولة للحظات لا أفهم ماذا تقصد؟ هل حقاً تريدني أن أقف عارية أمامها، كانت الفكرة مرعبة بالنسبة لي كيف أقف أمامها عارية؟!".
تُكمل مريم: "وقفت عارية أرتجف وأبكي بصوت مكتوم، فجأة، أمسكت شعري بقوة، تمنيت فقط أن ينتهي هذا الجحيم، لكن كان هذا مجرد بداية، أدارتني نحو الحائط وضغطت على ظهري لأنحني، ثم توجهت بيدها إلى أماكن أكثر حميمية وعبثت بأعضائي التناسلية، صُدمت، تجمدت مكاني، لا أستطيع الحركة أو الصراخ، كل ما كان بوسعي فعله هو البكاء بصمت… انهار جسدي تماماً، سجينات أخريات حملوني وأنا مرتعشة، عانيت نزيفاً استمر طيلة أسبوع".
تقول مريم: "لم تكن هذه المرة الأولى التي أتعرض فيها للتعذيب؛ لقد عُلِّقت سابقاً كالذبيحة، وتعرضت للصعق الكهربائي في أماكن أخرى، لكن ما حدث في ذلك اليوم، كسرني حقاً، دمرني جسدياً ونفسياً".
بحسب شهادات وثقتها منظمات حقوقية؛ مثل "المفوضية المصرية لحقوق الإنسان" و"الجبهة المصرية لحقوق الإنسان"، كشفت ناجيات عن وقائع صادمة للعنف الجنسي أثناء ترحيلهن إلى السجن أو عودتهن من المحكمة. في تلك اللحظات، ترافق السجاناتُ المحتجزاتِ إلى دورات مياه أو غرف مغلقة، حيث يُطلب منهن خلع ملابسهن بالكامل. تمتد يد السجانة إلى ثدي المحتجزة، وأحياناً تلتقط كيساً بلاستيكياً من الأرض، تضعه على أصابعها وتدفع إصبعين أو ثلاثة داخل المهبل بحجة التفتيش. هذه الممارسات تعرف بـ"التفتيش القسري المهبلي".
استجمعت مريم قواها، وعزمت أن تتقدم بشكوى ضد السجانة التي تدعى "هانم" في جلسة الاستماع أمام وكيل النيابة؛ فلم تجد منه إلا سخرية من الواقعة، ثم "أغلق المحضر من دون أن يسمح بكتابة أقوالي وإثباتها بمحضر الجلسة، وبرر فعله بعدم اختصاصه… وانتهت الجلسة بتجديد الحبس على ذمة التحقيق، بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية"، بحسب روايتها.
تقدم محامي مريم إلى النائب العام ببلاغ -أطلعنا عليه- يطالب فيه باستدعاء مأمور سجن القناطر، ورئيس مباحث السجن والسجانة التي تدعى "هانم"؛ والتحقيق معهم بتهمة "هتك عرض أنثى"، وفق المادة 268 من قانون العقوبات، إلا أنه لم يتلقَ أيّ إشعار بفتح تحقيق في هذا الأمر.
وبعد البلاغ، استخدمت إدارة السجن أجهزة مُخصصة للتفتيش، والتي كانت مُخزنة من دون استخدام، وبعد فترة عادت إلى إجراء التفتيش اليدوي المهبلي، بحسب المفوضية المصرية.
توصي قواعد الأمم المتحدة لمعاملة المحتجزات (قواعد بانكوك، القاعدة رقم 20) باعتماد أساليب فحص بديلة؛ مثل استخدام أجهزة المسح، لتجنب اللجوء إلى عمليات التفتيش الجسدي التي تتعدى على الحرمات، بما في ذلك التفتيش الجوفي والتفتيش الجسدي الحميم؛ وذلك للحد من الآثار النفسية والجسدية الضارة التي قد تنجم عن هذه الممارسات.
وفق المفوضية المصرية للحقوق والحريات؛ كثيراً ما تمتنع النيابات عن فتح تحقيق منفصل في الشكاوى الخاصة بالتحرش والعنف الجنسي ضد المحتجزات، وترفض القيام بمهمتها كسلطة تحقيق.
رغم أن سولافة مجدي التي تعمل صحفية، كانت تحاول التعافي من جراحة معقدة لاستئصال ورم في الرحم، فإن جدران السجن لم تحمل لها سوى مزيد من الألم. تقول إنها في إحدى المرات، أُجبرت على خلع ملابسها بالكامل في غرفة التفتيش، لتواجه تفتيشاً مهبلياً قاسياً، من دون مراعاة وضعها الصحي. لم يكن ذلك كافياً؛ فتعرضت أيضاً لكشف قسري على الرحم، ما تسبب لها بنزيف حاد استمر لشهور.
حين حاولت الاعتراض، عوقبت جسدياً ونفسياً. وأدلت سولافة بشكواها أمام القاضي قائلة: "تعرضت لتحرش ممنهج؛ كشف قسري تسبب لي بنزيف طويل، وسحل داخل السجن".
لم نتلقَ رداً من مكتب النائب العام في مصر على ما ورد في هذا التحقيق، رغم تواصلنا معه في إطار حق الرد.
* أسماء مستعارة
هذا التحقيق أُنجز بدعم من أريج
15/01/2025 07:15 pm 51