كنوز نت - حسن عبادي/ عمان-حيفا


الرسم بالموسيقا


كنوز نت - حسن عبادي/ عمان-حيفا : شاركت بمعرض عمان الدولي للكتاب في دورته الثالثة والعشرين، وأسعدني مرافقة صديقي الشاعر والروائي أحمد أبو سليم حفل إشهار وتوقيع روايته "باباس" (221 صفحة، لوحة الغلاف: الفنان التشكيلي السوري سعد يغن الصادرة عن دار الفينيق للنشر والتوزيع في عمان، وصدرت له روايات سابقة؛ الحاسَّة صفر، وذئاب منويَّة، وكوانتوم، وبروميثانا، ويس، وأَزواد).

تساءلت عندما رأيت الرواية للمرّة الأولى: ما هو "باباس"؟ يُعتبر اختيار عُنوان الرواية مهمّةً صعبة، رغم أنّه في حينه قيل: "الكتابُ يٌعرفُ من عُنوانِه" فكان الكاتبُ يختارُ عنوانًا مشيراً إلى مُحتواه ليُحفّز القارئ على تناولِه، ولكن مع الزمن أصبح العنوان عتَبةً نصّية، وعملًا فنيّاً موازيًا لمتن الرواية، وأصبحت له وظائف ودلالات ومنها: وظيفة وصفيّة تتعلّق بموضوع الكتاب أو نوعه أو كليهما معًا، أو ترتبط بالمضمون ارتباطًا غامضًا، أو وظيفة إغرائيّة تسعى لإغراء القارئ، أو اسم يميّزه عن باقي الكتب...
وفي رواية "باباس" يجذب العنوان القارئ ويَبقى في ذاكرتِه، وقد یُنسى اسم المؤلف، ولا یُنسى اسم الرواية، تماماً كأخواتها الحاسَّة صفر، وذئاب منويَّة، وكوانتوم، وبروميثانا.

يكشف الروائي هويّة باباسه "سمّاني صديق لي باباس حين كنتُ قد حشرت نفسي في زنزانة وحدي، في بلغاريا، في صوفيا، واعتزلت العالم لأتدرّب على أجواء الزنازين، عشتُ متقشّفاً، وكان يماحكني، أطلق عليّ لقب باباس نسبة إلى طائفة هنديّة زاهدة في الحياة، تمارس التقشّف وتمتنع عن ملذّاتها" (ص. 162)، وكأنّي به يصرخ، لكلّ منا زنزانة تنتظره، فليتدرّب على أجوائها اليوم قبل الغد.
كتب في التمهيد: "ما الَّذي كنتَ ستفعله لو كنتَ تشعر بأنَّك تملك هذا العالم؟ وأنَّك تأمر فتُطاع، وأنَّ بوسعك أن تنال كلّ ما تريده بلا تأخير؟ وأنَّك جرَّبتَ كلّ ما يمكن أن يجرِّبه البشر وانتهيتَ منه؟"

يتناول الكاتب موضوع الرسم بالموسيقى؛

تزامنت قراءتي لرواية أحمد للمرّة الثانية حين تقرّر تناولها في "أكثر من قراءة" مع قراءتي لكتاب "فتنة الحاسة السادسة– تأمّلات حَولَ الصُّوَر" لصديقي فراس حج محمد، وكتبت حوله: "لكلّ صورته؛ والصورة علامة فارقة وشارة، وكل شخص له وجه يُعرف به، لا يماثله وجه آخر، تماماً كما كتب الروائي أحمد أبو سليم في رواية "باباس": "لكلّ بشر منّا مقطوعة موسيقيّة تشبهه... قطعة موسيقيّة تشبهه ولا تشبه غيره... إنّها وصف للرّوح". تماماً كما جاء في فلسفة (أبو فراس) رحمه الله حين علّمه في صغره "إن غاب اسمي هاي رسمي" سنوات عديدة قبل اكتشاف "البيومتري" والتعرف الآلي على الأفراد استناداً إلى سماتهم البيولوجيّة".
الرواية فلسفية بامتياز؛ خلاصة تجربة حياتيّة لصاحبها، نظرة بانوراميّة لما عايشه وعاصره من تجربة، فيصوّر مجتمع المثقّفين الذين يعاشرهم "الزمن تغيّر، كل الناس الآن يتحدّثون، ولا يصغي أحد إلى أحد، الكل يريد الحديث فقط، يريدون أن يطلقوا تلك الآهات التي يكبتونها داخلهم، يريدون أن يعترفوا لأحد لا يعرفونه كي لا يذلّهم بما يعرف عنهم" (ص.74).
يتناول ردّة فعل الشارع العبثيّة، فزعات عرب عاطفيّة موسميّة "الناس هنا يهبّون مثل عود الكبريت وينطفئون بسرعة مثله".
يتناول الكاتب بحُرقة ما يجري في عالمنا العربي؛ "العالم من حولنا حارق متفجّر، سوريا تطحنها الحرب والإبادات، والعراق منفجرٌ منقسمٌ على ذاته، محتلّ، وداعش التي كانت تتمدّد على حساب البلدين وغيرهما، وتقترف أبشع الجرائم باسم الدّين، ما زالت تحاول أن تستعيد سيطرتها على الواقع، والسعودية وحلفاؤها يخوضون حرباً ضدّ اليمن، وفلسطين تتفجّر بالشهداء" (ص. 158). صورة قاتمة وكأنّي به يقرع جدران الخزّان ويدقّ ناقوس الخطر، فهل من سامع أم مجيب؟


يصل الكاتب إلى خلاصة مفادها أنّ الموسيقا غذاء الروح، ولكلّ موسيقاه، والموسيقا وسيلة علاجيّة لمواجهة بشاعة هذا العالم، بكلّ صوره، لعلّ وعسى يتغلّب على واقعه المرير. "حين أفاق كان زرياب رجلاً آخر. في داخله موسيقا بلا حدود، في داخله جنون الموسيقا، تتمدّد، تتفتّت، تتفجر فيه، وينفجر فيها، فيصبح موسيقا" (ص. 205)، ويا له من جنون. صار للموسيقى استقلاليّة وروح وحياة نابضة، باتت اللوغوس بحد ذاته، تلك القوة الباطنية التي تحيي وتبعث الحياة، باتت الوسيط بين الخالق وبني البشر، تغذي الروح لتمكّن الإنسان أن يرتفع إلى رؤية الله.
يقولها الكاتب بصريح العبارة: "لكلِّ بشر منَّا مقطوعة موسيقيَّة تشبهه، هكذا كانت أُمِّي تقول، مثلما بوسعك أَن ترسم بورتريه للشَّخص يمثِّل ملامحه كاملة، أَو تنحتَ له تمثالاً، أَو تكتب صفاته وملامحه وعلاماته الفارقة، هناك أَيضاً ما يمكن أَن يمثِّل الإنسان موسيقيَّاً، قطعة موسيقيَّة تشبهه ولا تشبه غيره، لكنَّها لا تشبه ملامحه الخارجيَّة فحسب، إنَّما تشبه ما يمور هناك في أَعماقه، إنَّها وصف للرُّوح."

نعم؛ ثمَّة موسيقيُّون بارعون بوسعهم رسم شخص ما بالموسيقا.

لفتت انتباهي مطالع فصول الرواية وكأنّي بها تشكّل مقطوعة موسيقيّة فلسفيّة وسيمفونيّة متكاملة؛ "لقد وُلدتُ كهلاً حين أتيتُ إلى الوجود" (سورين كيركيغارد)، "ها أنا أُرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيّات وبسطاء كالحمام" (إنجيل متّى)، "الحقيقة هي ما يثبت أمام امتحان التَّجربة" (ألبرت أينشتاين)، "الحقيقة لا تلدغ، ما يلدغ هو إدراكنا لها" (أنطوني دانجيلو)، "من لا يستطيع الكذب، لا يعرف ما هي الحقيقة" (فريدريك نيتشة)، "ما الوقتِ، اعتدتُ على الصَّدأ، مثلما اعتادت التَّماثيل على التَّعب من التَّحديق في الأزمنة" (فيودور دوستيوفسكي)، "الطّريق إلى الحقيقة تتعدَّد بتعدُّد السَّالكين" (ابن عربي)، "الموسيقا لا تكذب، فإن كان ثمّة تغيير حقيقيٌّ نريد إحداثه في هذا العالم، فالطّريقة الوحيدة لذلك هي الموسيقا" (جيمي هندريكس)، "أنت اثنان: واحد يتوهّم أنّه يعرف نفسه، وواحد يتوهّم أنَّ الناس يعرفونه" (جبران خليل جبران)، "الوحوش حقيقيّة، والأشباح كذلك، تعيش داخلنا، وفي بعض الأحيان تنتصر علينا" (ستيفن كينج)، "الوهم هو حقيقة في عقل صاحبه، والحقيقة هي وهم اتّفق مجموعة من الناس في لحظة ما على صحَّتها" (نجيب سرور)، "ليس من المنطق في شيء أن تتباهى بالحريّة أنت مكبّل بقيود المنطق" (ميخائيل نعيمة)، "كي نحرِّك ونغيِّر العالم، علينا أن نبدأ بتحريك أنفسنا قبل كلّ شيء" (سقراط)، "كلُّ الألوان تتساوى في الظّلام" (فرانسيس بيكون)، "لا يبقى في الذّاكرة سوى ما نريد نسيانه" (فيودور دوستيوفسكي)، "لا يوجد قضيّة تستحقُّ أن يشنق الإنسان نفسه من أجلها" (ألبير كامو)، "قلب لا يبالي، يعيش طويلاً" (وليم شكسبير)، "الموسيقى هي الصوت الذي يخبرنا أنَّ الجنس البشريّ أعظم ممّا يعرف" (نابليون بونابرت)، و"حتّى أضخم الأبواب مفاتيحها صغيرة" (تشارلز ديكينز). يا له من كونسيرت! هذه المعزوفة تدلّ على سعة ثقافة الكاتب المعرفيّة واطلاعه، وفلسفة حياة بنيويّة، وليست من باب شدّ العضلات "خبِط لزق".
وأنهى أبو سليم الرواية كاتباً: "حين تصبح الحياة بهذه القسوة لا بدَّ من الطُّوفان إذن، كي يغسلها من أدران البشر.
إنّه الطُّوفان!
إنّه الطُّوفان من جديد يا مريم!
وكأنّي به يتنبأ بطوفان الأقصى. ويا له من طوفان.

وأخيراً؛ انتهت كل فصول الرواية باستثناء فصلها الأخير بمقولة الكاتب: "ما كان كان، لكنّ ما كان لم يكن في الحسبان!"، وتنفّستُ الصعداء حين وجدت شيفرة الرواية في خاتمتها: "ما كان كان، لكنّ ما كان، كان في الحسبان". وكأنه يستعير عصا المايسترو ليدل بها على عصا أخرى حاضرة في ميدان هذا الطوفان!
***مشاركتي في ندوة "باباس" يوم الأحد 05.01.2025 عبر الزووم ضمن فعاليّات "أكثر من قراءة" في عمان