كنوز نت - خالدية أبو جبل


      

" من الورق العتيق"  "المسموحات"


     


" من الورق العتيق"
"المسموحات"
لا تجلس على الحجر الأخير في الغابة
مسكونًا بالجن والرّب والحب
وعشق العبيد...
تنتظر كأسًا عاريًا
وجسما حافيًا
ووهمًا لن يعود
.....
لا تجلس على الكرسي الأول في الحانة
الكرسي من حشيش
الخشب أفيون الحَلفى
أيهما أوفى
شقاؤك المعطّر أم الخمر المقطّر
أم دموع ليلى؟
......
لا تجلس على حافّة القبر
أترك مساحة لأعدائك
في كأس انتقام
وأترك مجرى للهوى والقدر
وجرعة غرام
....
لا تجلس على تراب النّهر المبلّل
أترك شاطئيه يتبادلان القُبَل
بالرّذاذ تتعمد الشفاه
ريق العمر في كأس صغيرةٍ
لا تشرب واثمل... ذئاب
الله من حولك
وعشق الحياة يتفجّر
....
مسكونًا بالجوع والخوف
ولهفة العطش
وقساوة قريش
يخونني ترحالي في الشتاء والصيف
يفنى الزّمن التّرابي
بين حضوري وإيابي
وأسكرُ من لذّة عذابي
...
لا تجلس على الشاطئ الأخير في البحر
مسكونا بأحلام العذارى
الماء بلسمٌ مالحٌ
الحب علقمٌ جارح
حصانها بعيدٌ عن البّر
بَرُّكَ سرُّ ربِك
مُسرجُ حصانك جاهزٌ
أين صهيل المُهر؟
....
لا تجلس على الجذع الأخير في الحديقة
تحبسُ الهواء عن جذع زيتونة
وثدي عجوز تُراقب حفيدها والشّمس
يلتحم الصّدق بالعشق
يختصم الصادق مع العاشق
تدنو الحقيقة تصرخ وردة من همس الشّك
تموت زهرة من لمس الشّوك
تتعارك الألوان على الوردة
وأنتَ نبتة برية
تبحث عن ثواني الدقيقة
....
لا تجلس على فُوّهة الزجاجة الأخيرة
البركان في جوفك
وجسمك النحيلُ
يُحاربُ ذئاب الرّب وظلّ النخيل
كأسك المثقوب تعانق القعر
النخلة تحمي حبّات التّمر
يَفرُغُ كأسُك
يستعيد زجاجة وحبيبة
ويبدأ... دهري
  • خالد بدر
نُشرت على صفحات
صحيفة المقال
12/4/2001
******
قصيدة إبداعية شديدة التفرد والخصوصية، لذيذة رقيقة، استمدت
جمالها ورونقها من كتاب الطبيعة، وهو الكتاب المُشرق الذي لا يقبل تأويلا، ولا يحتاج الى تفسير.
تناسلت فيها ألوان النهر والتربة والحجارة والشمس وموج البحر وكأس مثقوب القعر
تصعد منه موسيقى تُشيع جوا من الاحساس الرهيب بالجمال والنقاء
تُشّرع الأبواب على الجراح كلّها...
نظر الشاعر من خلال قصيدته الى الوجود من زاوية خاصة به وحده، وقد عالج هذه الرؤية الخاصة بطريقة فنيّة متفردة.
مُستعملا مفردات وعبارات تعطي للمتلقي شعورًا بأن هذا العالم الذي تقدمه لنا القصيدة هو من إبداع الشاعر وابتكاره، حتى لو كانت مفردات مستمدة من الوجود الواقعي، إلا أنه أعاد صياغة هذه المفردات
على نحو خاص جعل هذا الكيان الجديد
المؤلف من هذه المفردات كيانًا خاصًا منتميًا الى الشاعر أكثر من انتمائه إلى عالم الواقع الذي استمد منه الشاعر العناصر والمفردات. وهذا كفيل برفع القيمة الفنية للقصيدة.
فلم تقف القصيدة عند العادي والمبتذل،
بل اعطت للعادي عمقًا وجعلت منه طاقات ايحائية ذكية،
يفتح الشاعر جراحه كلها،تتشابك المشاعر
والأحاسيس، يثقُبُ صمت البراكين، فترتفع حرارة الكلمات، لتستجيب لتفاعل هذه المشاعر المتشابكة، لينمو بناء القصيدة ويتطور وتنشأ علاقات جديدة من عناصر هذا البناء التي لا يبدو بينها في الواقع أي صلات، وتصبح هذه العلاقات، على
غرابتها، مشروعة وطبيعية في ضوء هذه الرؤية الجديدة.
فلا عجب إن تبادل شاطئيّ النهر القبل
ولا عجب إن كان في الغابة حجر أخير
او كان للبحر شاطئ أخير
ولا غرابة أن يكون للعجوز ثديٌ طافح بالحب والحليب، فحفيدها جائع والشمس
تُعرّي الحقائق...
"وثدي عجوز تُراقب حفيدها والشّمس
يلتحم الصّدق بالعشق"
*****
كان للتكرار أثرا جميلًا في القصيدة، فقد كان الوسيلة الاساسية في الإيحاء، حيث تصرف بطريقة ابداعية حين تدخل في العنصر المُكرر وتصرف بصياغته بحيث لا يأتي بصورة واحدة في كل مرة.
" لا تجلس على الحجر الأخير في الغابة"
" لا تجلس على الكرسي الأول في الحانة"
الى آخر القصيدة
ولم يكن لتعدد الصورة اثرً سلبيًا على وحدة
القصيدة، فثمة وحدة عميقة ألّفت بين عناصرها وصهرت كل مكوناتها المتنافرة،
لتصبح كيانًا واحدًا متلاحمًا مُتجانسًا،
يلُّفها حزن وديع قرير، وفي الوقت ذاته
حزن عميق وراسخ، يستقر في أعمق أعماق النفس حيث تُختزن كلّ ظلال الأسى والشجن. حزنٌ عكس مدى المعاناة والضيق اللذين يكابدهما الشاعر من مفارقات هذه الحياة.
وهذا ما جعل روحه وخياله وليست حواسه تكتشفان العلاقة بين الأطراف المتباعدة والمتناقضة
" الماء بلسم مالح"
الحب علقم جارح"
*****
ومثلك يا أبا الحسن حين يسكب روحه على الورق، يختلط الزمان بالمكان، فيصبح الزمان بكل ما تلقيه مقاعدك السبعة، من
ظلال الحزن الشفيف الخفي،مقترنًا بالسكون الغاضب، فيسكر من لذة العذاب
في الفصول الأربعة...
"يخونني ترحالي في الشتاء والصيف
يفنى الزّمن التّرابي
بين حضوري وإيابي
وأسكرُ من لذّة عذابي"
وهل كان أن علمت شعبًا يحيا ثملا من لذة
العذاب؟ سوى شعبًا يدعى عربًا؟!
*****
هي مقاعدك السبعة التي تنهى عن اتخاذها مجلسًا، وكأني بك جلَسْتَها كلّها، حتى تكشفت لك أسرارها، وعلمت مدى أخطارها...
"لا تجلس على الحجر الأخير في الغابة
مسكونًا بالجن والرّب والحب
وعشق العبيد...
تنتظر كأسًا عاريًا
وجسما حافيًا
ووهمًا لن يعود"
فها هو مقعدك الاول الذي تنهى المتلقي عنه في الغابة وعلى الحجر الأخير، وهل
من حجر أخير في هذه الغابة؟!
وكأنك تكشف سرّ البقاء في هذه الغابة
وتُجدّد دورتك الدموية، مزوّدًا إياها بقناعة
أن ما تنتظره "وهمًا لن يعود"
"لا تجلس على الكرسي الأول في الحانة
الكرسي من حشيش
الخشب أفيون الحَلفى
أيهما أوفى
شقاؤك المعطّر أم الخمر المقطّر
أم دموع ليلى؟"
......
وكيف لمن ينتظر وهما لن يعود
لا يجلس على الكرسي الأول في الحانة؟
كيف له النسيان وقش الكرسي من أفيون الحلفى؟
إنها الحلفى أيها الإنسان الشاعر
غصتَّ بقدميك مستنقع المياه الراكدة
اجتثتها يداك، نذرتها للشمس أياما حتى صارت طيّعة، لتجدل منها مقعدا صار شاهدا على زمن مضى بشقائه اللذيذ
عاصر أناس وكأنهم خُلقوا من طينة ثانية
جمعهم الفقر فتعاونوا عليه بالمحبة،
أوجعهم ظلم الحاكم واجهوه بالمقاومة،
ذاقوا من الدنيا الأمرّين، فكسروا المرار
بمذاق فنجان قهوة سادة من دلّة كريمة طيّبة.
مضى الجميع ولم يبق الا الكرسي شاهدا
ودموع ليلى، ليلى البنت
وليلى الحبيبة
حزينة كحزن الحبق، على رحيل من بالماء
رواه...
ومن يكتب عن ليلى يخاف عليها من قلبه وقلمه وأمواج الحياة...
"لا تجلس على حافّة القبر
أترك مساحة لأعدائك
في كأس انتقام
وأترك مجرى للهوى والقدر
وجرعة غرام"
هي الحافة فقط أيها الشاعر
دع لنا متسعا قليلا فيها نتأوه بعض الحسّرات ونمضي لنسمة حب او رشفة غرام، فالقبور أيضا تموت بالنسيان!
"....
لا تجلس على تراب النّهر المبلّل
أترك شاطئيه يتبادلان القُبَل
بالرّذاذ تتعمد الشفاه
ريق العمر في كأس صغيرةٍ
لا تشرب واثمل... ذئاب
الله من حولك
وعشق الحياة يتفجّر
مسكونًا بالجوع والخوف
ولهفة العطش
وقساوة قريش
يخونني ترحالي في الشتاء والصيف
يفنى الزّمن التّرابي
بين حضوري وإيابي
وأسكرُ من لذّة عذابي"
حزنٌ يصير حُلمًا بانعتاق الروح وعشق
للحياة،
فالعطش مازال سيد الموقف
وقريش تناسلت واستولت على آبار
المياه...
وما بقي إلّا أن نتجرع بقايا عمرنا وأضغاث حلمنا،ونسكر من لذّة العذاب!
.****
"لا تجلس على الشاطئ الأخير في البحر
مسكونا بأحلام العذارى
الماء بلسمٌ مالحٌ

الحب علقمٌ جارح
حصانها بعيدٌ عن البّر
بَرُّكَ سرُّ ربِك
مُسرجُ حصانك جاهزٌ
أين صهيل المُهر؟"
هذا البحر الراحل كلّ صباح نحو يوم مجهول في مغامرة مجنونة، وحده لا يغير لونه ولا يخون ملحه...
لكن وحدك أيها الفلسطيني لا تجلس على شاطئه الأخير فالموج سيغدرك..
فحبك علقم ومهر برّك هارب...
"لا تجلس على الجذع الأخير في الحديقة
تحبسُ الهواء عن جذع زيتونة
وثدي عجوز تُراقب حفيدها والشّمس
يلتحم الصّدق بالعشق
يختصم الصادق مع العاشق
تدنو الحقيقة تصرخ وردة من همس الشّك
تموت زهرة من لمس الشّوك
تتعارك الألوان على الوردة
وأنتَ نبتة برية
تبحث عن ثواني الدقيقة"
تجلي إبداعي لصراع الحياة، لفجيعة الغربة
وسقوط معاني العوالم الجميلة، وضياع كلّ علامات الطريق...
....
"لا تجلس على فُوّهة الزجاجة الأخيرة
البركان في جوفك
وجسمك النحيلُ
يُحاربُ ذئاب الرّب وظلّ النخيل
كأسك المثقوب تعانق القعر
النخلة تحمي حبّات التّمر
يَفرُغُ كأسُك
يستعيد زجاجة وحبيبة
ويبدأ... دهري"
إسقاط رائع " ذئاب الرب، ظل النخيل
النخلة تحمي حبّات التمر"
لخصت مأساة أمتنا التي وضعت رقابها
بايدي ( ذئاب الرّب) أحفاد ابا جهل وابا لهب، فصار حاميها حراميها...
كمن سكب شرابه في كأس مثقوب
فتجرع الهم والبؤس
ولّوح بيده يطلب زجاجة أخرى!
يخذلُنا يقيننا حين نتوقف في منتصف الطريق، وفجاة نتذكر أننا نسينا شيئا مهمًا،
وعندما نركض عائدين للبحث عنه لا نجده.
ندرك عمق الخسارة والفقدان وأن لا جدوى للحياة..
في كل يوم يا خالي يقف قرص الشمس وقفة الوداع بين راحتيّ الأرض والسماء
متوهجًا كاللّهب الأحمر فيظلّ ينثرُ ذراته
الذهبية في عرض الفضاء .
  • خالدية أبو جبل
الثاني من كانون الثاني ٢٠٢٥