كنوز نت - قراءة: أشرف قاسم / شاعر وناقد من مصر


"ظلالٌ مضاعفةٌ بالعناقات" لنمر سعدي: غوايةُ اللغة واسترسالُ المجاز
  • قراءة: أشرف قاسم / شاعر وناقد من مصر
يعبِّر الشِعر في المقام الأوَّل عن ذات الشاعر، ويخترق الحجب، ليصير النص الشعري استشرافاً للمستقبل، ونبوءة يحملها حدس الشاعر إلى المتلقي، ولكل شاعر طريقته في سبك حليته الشعرية، ولكل طريقته في إدارة خياله، واللغة هي المدخل الأول إلى رؤية الشاعر، فهي الوعاء الحامل لأفكاره، تلك اللغة التي تختلف في طزاجتها وجدَّتها من شاعر لآخر.
في ديوانه الصادر حديثاً "ظلال مضاعفة بالعناقات" يصافحنا الشاعر الفلسطيني نمر سعدي بتلك اللغة الجامحة ذات المجاز المسترسل، والصور الطازجة البكر، في تشكُّلها المغاير، يعبِّر من خلالها عن همومه الذاتية، وأوجاع البشر، من خلال ترانيم تشبه الألحان الجنائزية في لوعتها ورقتها وصدقها الإنساني.
يكتب الشاعر نصاً محكماً ذا طاقة تعبيرية منفتحاً على التأويل، بعيداً عن الغموض والإلغاز المبهم، يظهر من خلاله تأثره الواضح بمختلف الفنون البصرية، حيث يوظِّف اللوحة والموسيقى والنحت والمسرح والكادر السينمائي في نصه الشعري بصور وطرائق متعددة دون أن ينال هذا كله من جماليَّة النص الشعري الذي يحرص نمر سعدي على أن يقدمه إلى المتلقي في ثوب قشيب مختلف عن السائد:
من أينَ تبدأُ وحدةُ الشعراءِ؟
من أيِّ انتهاءٍ للكلامِ عن الحرائقِ في مجازاتِ الأنوثةِ
والحدائقِ ملءَ أجسادِ النساءِ؟
لا شيءَ أعرفهُ.. وُلدتُ كنجمةٍ تهوي من الرؤيا
ومن سفرِ المزاميرِ الجديدِ
وعشتُ أرعى العشبَ في قاعِ البحيراتِ
التي انقرضتْ وفي برِّ اشتهائي
من خلال تلك الغنائية التي تحفل بها نصوصه يقدم لنا وجبة شعرية موجعة قدر جمالها، حارقة قدر استرسالها عبر نصوص الديوان، معبرة عن الفقد والخذلان ووحدة الكائن البشري في مواجهة القبح المستشري، وفي مواجهة آلة الحرب الدائرة هناك في الوطن السليب، وفي مواجهة الألم الإنساني الذي يحمله الشاعر عبر نصوصه صكَّ عبور إلى الآخر، تلك الغنائية هي التي تفجر في نصوصه طاقات تعبيرية وفنية يوظفها الشاعر في نصه الذي تتعاضد فيه الفنون التعبيرية جنباً إلى جنب كما أسلفنا:
الشوقُ نافذتي وبابي
مطري الذي يهمي عليَّ بكلِّ أرضٍ كنتُ
ناري وانصبابي
في الهواءِ وفي مطالعِ كلِّ بيتٍ
في الوقوفِ على طلولِ العمرِ
أو سرِّ الأنوثةِ في الروابي
مفتاحُ بئرِ الليلِ والفردوسِ
نوَّارُ ابتساماتِ العيونِ الحورِ أو قمرُ التصابي
من خلال تلك الانزياحات اللغوية التي يعضدها التشكيل البصري للصورة الشعرية يقدم الشاعر خطابه الشعري متكئاً على رصيد كبير من ثقافته المتشعبة، وتجاربه الحياتية العميقة، التي تبتعد عن السائد، وتكسر رتابة المألوف، والخروج من أسر النمطية إلى رحابة الحداثة الشعرية في شكلها الأبهى لغة ومعنى، كما يحرص الشاعر على تنويع أسلوبه في التعبير حيث تتزاحم لديه الصور والأفكار:
لخمرةِ شهرزادَ أعدُّ مائي
وخابيتي لعينيها وصاعي
وأغزلُ من فراشاتٍ قميصاً
لها، ومن القطيفةِ والشعاعِ
أنا تمُّوزُ.. زنبقتي فرتها
ذئابُ الآدميَّةِ والأفاعي
ولكني سأطلعُ من مجازي
كشمسِ السندبادِ على الشراعِ
تقطِّرني ينابيعُ المرايا
ويحملُ لهفتي عشبُ المراعي
إن هذا الاهتمام الواضح بتوظيف الانزياحات الجمالية في النص الشعري لدى نمر سعدي هو ما يترك أثره في المتلقي، من خلال تلك اللغة الانزياحية المؤطرة الجامحة في آن واحد التي تكسر المألوف وتغاير السائد، ويخلق من خلالها الشاعر صوراً جديدة، ما يعدُّ إضافة جمالية للنص على المستويين الصوتي من خلال توليد دلالات جديدة للجملة الشعرية في خبريتها وإنشائيتها، والدلالي حيث يحتشد النص بالاستعارة والمجاز والكتابة والتشبيه وغيرها من الأساليب البلاغية:
دلَّتْ على أثري غيومٌ فوقَ أزرارِ القميصِ
وعانقتني كالسرابِ يدانِ من وجعِ الأهلَّةِ في الطريقِ إلى بخارى
لو كنتُ غيري ما فتحتُ نوافذي للريحِ
لم أصعدْ لأقطفَ من حقولِ الأخرياتِ زنابقَ الجسدِ المصابِ
بلفحِ شمسِ الماءِ في بئرِ العذارى
كما يتضح اهتمامه بتطوير النص الشعري على مستوى اللغة والدلالة والصورة والإيقاع والرمز وهو محاولة للخروج من ربقة النمطية والمباشرة والتحرر من سلطة التراث، والانفتاح على الحداثة بأشكالها التعبيرية المتباينة، ما يدل على أن الشاعر يحمل وعياً مختلفاً لمفهوم الشعر بشكل عام، والشعرية الجديدة على وجه الخصوص، لذا نلمح في نصوصه تلك الحيوية والتوهج والالتصاق بالإنسان:
غادرتُ أرضَ سدومَ ملتفتاً إلى امرأةٍ تحيلُ دمي إلى ملحٍ
وما اكتملتْ أنوثتها وما اكتملَ الغيابْ
لي حزنها وحدي وكلُّ جمالها للآخرينَ
ولي رسائلُ نثرها المجروحِ لكن ليسَ لي خمرُ الرضاب
يأتي الإيقاع ثيمة أخرى من ثيمات النص الشعري عند نمر سعدي، ولا أعني هنا الوزن فقط، بل أعني الإيقاع الداخلي للنص كذلك، وهو الذي يحمل رؤى الشاعر وأفكاره بصورة انسيابية تصل إلى المتلقي دون معاظلة، ويقف جنباً إلى جنب مع الإيقاع الخارجي المتمثل في التفعيلة العروضية، التي تحمل خطاب الشاعر، وتنظم حالة الانسجام بين الكلمة والمعنى، وهو أحد أسس الموسيقى الشعرية في تتابعها الحركي والغنائي:
ملكٌ على عرشِ الفراغِ، ممالكي ريشُ الغيومِ وصولجاني من كلامْ
آخيتُ بينَ ممالكي وسنابلِ امرأةٍ لها يتوَّهجُ المعنى الذي تحتَ الركامْ
آخيتُ بينَ مراكبي وذوائبِ امرأةٍ تقيسُ بحدسها ما بينَ عاطفتي وقلبي
والمسافةَ بينَ عينيها وعزلةِ شاعرٍ يصغي لماءٍ في حدائقها يسيلُ
كأنهُ الحزنُ الوجوديُّ الجميلُ.. كأنهُ عبَّادُ شمسٍ في نداءاتِ الرخامْ
في هذا الديوان يقف الشعر بجمالياته وسطوته في مواجهة القبح والكراهية، لينشر المحبة والسلام، ويرسم وجه الغد الموعود، ويترك الشاعر بصمته في سجل الشعرية العربية الحديثة.