بقلم : رشدي الماضي
-بلد المنحوس – خطاطة نثريّة تحكي وتسرد بوحا عبر الدفقات العذبة، عميقة الدلالة، بهدف خوض مغامرة الاكتشاف وبعث الرغبة المتوقّدة لولوج عالم الرواية، التي لم يَنْقَد فيها مبدعها الكاتب البارز سهيل كيوان الى قوالب النّصّ النَّمطي الذي لا يثير الأسئلة الجدليّة الاستشرافيّة...
ولن يخفى على القارئ الرّائي أنّ المؤلف، يعي ويدرك أنّه لا استغناء له ولنَصّهِ عن التّاريخ لما في داخله من اشتباك وثيق بين الزمان والمكان، فيقوم من خلال ما تناوله من أحداث من توثيق لقضيّته الوطنيّة، ولكن بتعاط انسانيّ يؤسّس الى مواقفه الفكرية الذاتية العميقة التي تعتمد مواكبة المستجدّات، ليواصل النّصّ اشتباكه مع التاريخ السياسي والاجتماعي والشَّأن المُعاش.
وها نحن نلمس ذلك في عنوان الرواية.. بَلدُ المنْحوس.. عتبة تقتصر على مفردتين وهو شكل استهلالي فيه سحر وجاذبيّة ومراودة للإبحار فيه واكتشافه بالتعمّق في مفرداته ولغته ودلالاته الرّمزيّة.
نحويا يتكوّن العنوان من خبر لمبتدأ محذوف تقديره – هذا – "والمنحوس" مضاف اليه مجرور أو يمكن اعتبار – بلد – مبتدأ لخبر محذوف...
وفي العنوان باروديا – سخرية مُرّة – فالبلد يعيدنا الى – البلد الأمين – وهو الآمن والذي يأمن فيه مَنْ يدخله... لكنّ المؤلّف جعله وبوعي دارا للمنحوس – من نَحِسَ نحوسة، طالع الإنسان، في يوم نحس وأيام نواحِس وعام ناحس مُجْدب!!! وذلك ليترك لأسلوبيّة العنوان التعبيريّة تتعاطى مع فكرة النَّصّ وترك المُتلقي في تفاعل تأملي فكري وتجاذب وجداني كي يمنحه التشويق والدهشة وهي من أبرز خصائص النّص الروائي... وحين نغادر عتبة – ثُريا الرواية – ونقف على مدخل متنها، نرى، بنظرة بانوراميّة أنّ سهيل يرسم صورة لوعيه لحركة الزمان وتحوّلاته والمكان وتبدّلاته من خلال محاور جدليّة لوجود الانسان في الزمان والمكان وفضّه أيضًا للواقع بكل موجوداته...
فإذا أمامنا نصّ سردي فسيفسائي في بنية معماريّة فنيّة وحواريّة خالصة تُقيم مشروعا روائيا يوظّف تناسل محكي التاريخ ليخرجه كما أراد ميشيل فونيل من الدهليز الى فوق السَّطح - قبل اشتباكه مع المُعْطى اليومي يحدّد المؤلّف المكان الذي اختاره حيّزا نمضي رفقته فيه مع حكاياته ونتعرّف على التفاصيل...
فأختار مدينة عكا، وهو اختيار موفّق، لأنّها، مدينة، تعتبر نمطا تاريخيا يستدعي أحداثا تراجيديّة لها حضور بارز في محطات تاريخيّة زاخرة تستنطق الماضي وتُمثّل رمز الهويّة والسّرديّة الوطنيّة (النّارتيف) عبر سرد أطروحي لمعالجة قضيّة لها راهنيّتها في مجتمع ضاجّ بالتّنوّع...
نلمس ذلك مع بداية الرواية، حيث يتصدّر الاسم – عكا – الفصل الأول منها (ص 9)، وهو اسم منذ آلاف السنين وأول مَنْ استخدمه المصريون في القرن الثاني قبل الميلاد، ويعود الى أساطير قديمة نعرف من خلالها أن المدينة كانت تُسمّى – عكو – ومنها جاء الاسم ...
ولكي يعمّق الصِّلة والتّلاحم بين المتلقي والمكان يُكثر وبشكل دقيق من المشاهد الوصفيّة لمعالم عكا... القلعة، الميناء، حمّام الباشا، نفق الفرسان، السّوق، المقاهي، كمقهى الدلالين، جامع الجزّار ووو... ممّا يدلّ على دِقّة وسِعة واتّساع معرفته، كمؤلف بكلّ خبايا وخفايا المكان الذي اختاره وانتقاه حيّزا لخطاطته السَّرديّة...
لكن، سهيل يعي جيّدا أنّ المكان ليس بحجارته، بل بناسِهِ، لذلك يستدعي لمشروعه السّردي عددا من الشّخصيّات ليقوم عبر نسيجه الروائي برصد لحركات كلّ شخصيّة ولما يدور في دواخلها، لتصبح بالنتيجة، كما أراد فريد سباير المرايا على الأرض وليس هناك في السّما، التي تعكس الضوء المنبعث من زمن مضى، لنتمكن عندها من رؤية ماضينا ومعالجة وقائع مضت...
طبعا لا يخفى على القارء النّبيه، أنّ باستحضار المؤلف لهذه الشخصيات، من تراكمات الذاكرة الحيّة، ومن ثمّ مَدّها بالحياة، هو لم يتوخ البتّة، اجترار وتكرار الماضي، إنّما يسرده بأمانة متناهية ليعيد انتاجه وصناعة هذا التاريخ من جديد... وهذا يتماشى وينسجم متوافقا مع حقيقة التصوّرات المعتادة للتاريخ، تتعدّاها بالكتابة وتتعالى عليها بسرديتها، لأن السَّر مسرح لتمثيل التاريخ كحدث ماضري، حدثا تتعامل معه هذه الكتابة، فاعلا نصّيا حيّا تتجاوز حدود الماضي الى الحاضر وما بعده حسب معطيات التّوظيف السّردي والميتا – سردي معا...
وبهذا ينجح، وبمهارة، المؤلف أن يربط خيوط الشخصيات، مثل: ربحي الحكواتي، جملات، مخلوف أفندي، أبو رسمي، زهرة، شكري، ونجمة وفضّة ووو وبالمقابل الشخصيّات التي تُمثّل الآخر: ايزاك، يوآب، اوريا، راتشنسكي... نعم! أن يربط خيوط الشخصيات بالأحداث بصورة نابضة بهدف البحث عن حقيقة الحَدَث التاريخي، وبالتحديد التاريخ المحكي لا الرسمي، لكونه تاريخ الشّعب، وهو التاريخ الحقّ... المسكوت عنه والمُراد عادة أن يبقى في الدهليز منسيّا!!!
والحديث عن الحدث والشخصيّة يلزمنا التفريق بين الأحداث التي تجري خارج وعي الشّخصيّة، أي حركة الشخصيّة في الزّمان والمكان وعن الأحداث الداخلية وهي التي تجري في وعي الشخصيّة ويتمّ التعبير عنها فنيّا بالحوار الداخلي، تيّار الوعي والأحلام غيرها...
نلاحظ في رواية – بلد المنحوس – كظاهرة اجتماعيّة هيمنة بارزة وملموسة للأحداث الخارجية والحركية لشخصيات الرجال أولا فالنساء ثانيا...
وتتجلّى غَلَبة العلاقات التي يتحكّم فيها الموضوع الجنسي في مجتمع عربي محافظ تَحْكُمُه الأعراف وهو ما نقرأه في الصّفحات الأولى للرواية:- "ركضوا من حدب وصوب... الى حارة الشّيخ عبدالله، كان أمين الزيدان مشتبكا مع رسمي ابن مخلوف أفندي... كلّ الحقّ عليها ليش سمحت لهذا الهامل يدخل بيتها..." ص11.. ثُمّ: "ولك يا مشحّرة انتبهي لجوزك"ص60.
وقبل التطرُّق الى الأحداث الداخليّة، لا بدّ أن نُسجّل أن اختيار الكاتب لمدينة عكا، حيّزا مكانيا هو اختيار موفّق، خاصّة لأنّه أرادها معادلا موضوعيا لكافة مدن وبلدات الوطن الكبير، وما حلَّ به من "نكبة" يصرّ، وبذكاء العارف أن يسمّيها "نحسة"... ليصبح مَنْ يسكنها هو "المنحوس"... فالأحداث الداخليّة تتوزّع الى أحداث ضمنيّة تستنتجها من خلال أقوال وتعابير وملامح الشّخصيّات خاصّة العربيّة، أو أحداث مصرّح بها من قبل الشّخصيّة أو الراوي... والذي يتمثّل في مقاطع حواريّة تجري بصوت مسموع بين شخصين أو أكثر، أو في كلام داخلي يجري في أعماق الشّخصيّة أو الراوي... والذي يتمثّل في مقاطع حواريّة تجري بصوت مسموع بين شخصين أو أكثر، أو في كلام داخلي يجري في أعماق الشَّخصيّة ممّا يمكّن القارئ من معرفة مكنونات وأسرار هذه الشخصيّة، وينسحب هذا على شخصيات الرواية، عربا ويهود..... نقرأ هذه الأحداث في حوارات اليهود قبل قدومهم الى ما سمّوه: "بلشتينا" بعد محاولاتهم إخفاء هويتهم خاصة في فترة مجازر النّازيّة، ثمّ في الفصل عن سقوط عكا، محاولات المسؤولين اليهود، مثل ايزاك الانخراط في واقع ونسيج أبناء المدينة العرب، تجنيد الضّعفاء العمل لصالحهم مثل شكري الموسيقار وردود فعل أهل عكا، والفصل عن فضّة المطهّرة وختانها لإيزاك إثباتا ليهوديّته....
بهذا تؤكد الرواية أن المؤلف يوافق هيغل بأنّ التّاريخ يُصاب بنوبة من المكر والخداع، فيلجأ الى عمل روائي يمزج فيه بين الواقعيّة والرمزيّة، مُتّكِئا على نضج وفهْم أدبيين بفعل التراكمات التاريخيّة، آلية لتوظيف واستثمار الواقعي واليومي والتاريخي في إطار رمزي فنّي لتطوير رؤية مستقبلية تقرأ الآتي غدا ينحاز لما هو نبيل وعادل ومرهف وصادق في الإنسان، لتصبح الرواية معادلا أدبيّا وصوتا لا يكرّر الماضي إنّما يتلوه ليفسّره ويؤوّله وينتجه من جديد سرديّة خضراء تستعصي على الخريف... اعتمدت لغة الاعتراف والبوح للمرسل اليه بكل تلقائية وبساطة، لتكشف عن طبيعة الشّخصيّة وحركتها من خلال تعدّد اللغات والأصوات، تقاطع الأنواع الخطابيّة والأدبيّة المتميّزة والبنية الحوارية الخالصة الممهورة باللغة الميعارية واللغة المحكية في آن....
شاعر فلسطيني -حيفا
"بلد المنحوس" – الكاتب: سهيل كيوان – الطبعة الأولى 2018 – مكتبة كل شيء.
17/11/2018 09:12 am 9,563